القدس | «أن يبدأ الإنسان باستعادة الشريط من جديد يعني أنه وصل نهاية ما». غالباً ما يُنظر بشيء من الريبة إلى روايات الشعراء. يبدو الأمر كما لو أنّ عازف آلة وترية انتقل إلى آلة نفخ أو قرر أن يصبح راقصاً، أو أن الشاعر بالضرورة سيكتب سيرة ذاتية مقنّعة فحسب. وفي أحيان كثيرة نتهيّب لغة الشاعر (بالأحرى انشغاله المفرط باللغة) وثقل هذا الانشغال على السرد الروائي، لكن الرواية الأولى للشاعر وليد الشيخ (1968) «العجوز يفكّر بأشياء صغيرة» (143 صفحة ــ دار أزمنة ـ عمان) سرعان ما تنسي قارئها هذه التهيّبات، وتأسره بحميميتها وهي تقدّم إليه ــ بعفوية بالغة ــ جدلية العلاقة بين «الأشياء الصغيرة» والقضايا الكبرى.
انكسار شهوات الفرد أو تحققها يجيء في موازاة انكسار أحلام الشعوب أو تحققها، وتحرر الجسد هو أيضاً من قضايا التحرر في سياق الأشياء الصغيرة، وهي هنا ذكريات المتع الحسّية التي يمكن أن تكون هي الحب في النهاية. نتتبع حياة غسان نصار بقدر من التجرّد والتورّط معاً. يقدّم وليد الشيخ عملاً ممتعاً وغير متوقّع في سياق الرواية الفلسطينية، ويمكن اعتباره مفاجأة من شاعر.
بعد ثلاث مجموعات شعرية، أخذت الحسّية والرغبة (والايروتيكية) مساحة جيّدة منها. يطلّ وليد الشيخ بقصة غسان نصار أو سيرته التي هي، بطريقة ما، أوديسة الحلم الشيوعي بعدما نكّس راياته في عاصمة الحلم الأممي بين موسكو بداية التسعينيات وفلسطين في زمن الجدار و«الانتفاضة الثانية» في العقد الأول من الألفية الثالثة.
تبدأ الرواية التي يسردها وليد الشيخ بضمير الغائب، بمشهد من طفولة «العجوز» غسّان نصار (الذي «كان يرى نفسه عجوزاً» منذ البداية) في مخيم للاجئين لا تتم تسميته، منتصف سبعينيات القرن الماضي. فقط مَن يعرف المنطقة، سيتعرّف إلى مخيم الدهيشة: «عندما قفز الفأر من وعاء الترمس، كانت يده الصغيرة تناول الحاجة فاطمة تعريفة، مقابل حفنة من تلك الحبّات المبللة بالماء، المنفوشة، والطرية برائحة لا يعرف حتى الآن موقفه منها... لكنه الآن بعدما رأى فأراً سميناً وكسولاً يخرج من الوعاء، في حركة يبدو أن الفأر نفسه اعتادها، رجفت أصابعه التي تحمل حفنة الترمس، واحتار من جديد في دوامة سؤال كبير ونتن: ما الذي عليه أن يفعله بحفنة الترمس التي في يده؟ [...] كيف تتسلل الآن إلى ذاكرته صورة الفأر الكسول الذي نزل من الوعاء بثقة حدث نفسه: هل يمكن أن أنسى كل شيء عن الطفولة تقريباً، وأتذكّر فأرأً تافهاً قفز من وعاء الترمس؟».
يسترجع غسّان نصار (في الاسم تحية مخبأة إلى القائد الشيوعي الفلسطيني فؤاد نصار) شريط حياته ولا سيما سنوات دراسته الثماني في موسكو ويستعيد «يومياته الأولى، في سيرة جنسية تعد ثروته الخاصة، وغناه الوحيد، إلا أنه لا يستطيع أن يورثه لأحد، ولا حتى أن يسرده أمام الناس، خوفاً من نص في قانون العقوبات الساري المفعول، الذي سيعتبر تصرفه هذا يستوجب عقاباً. إلا أن تفكيره حرّ. ويستطيع ببساطة أن يطل على سيرته الجنسية وهو يتهدل في مشيته، دون أن يشك أحد من رجال الأمن بما يدور في خلده».
وفي هذا الاسترجاع، نعرف أنّ غسان يعمل الآن في «وزارة الشؤون الاجتماعية» في بيت لحم. ولعل «وزارة الشؤون الاجتماعية» في مستواها الاستعاري هي المشروع الوطني في زمن ما بعد أوسلو. الواقع الفلسطيني والرواية يقترحان أنّ المشروع الوطني الآن هو بمثابة «وزارة شؤون اجتماعية» بما تمثله وزارات كهذه من إحباط يفوقُ مساعداتها لـ «الحالات الاجتماعية». حياة رتيبة محدودة وفوق ذلك مهددة بعدوانية المستعمِر، فضلاً عن أنها بدأت تتفكك وتتحلل من الداخل. قيم تقدمية أصبحت مجالاً للنوستالجيا، وأناشيد أممية طويت راياتها، وكل شيء يبدو قديماً ولزجاً وبعيداً مثل أغنية لخوليو اغليسياس.
ملامح مشتركة كثيرة بين وليد الشيخ وغسان نصار. كلاهما عاش طفولته في ذات المخيم ومن أُسرة شيوعية، ودرس في الاتحاد السوفياتي ورجع ليشغل وظيفة حقوقية في زمن فلسطيني جديد أُطفئت فيه أحلام التحرر كما نُكّست فيه راية التقدّم والأممية. كما أنّ انشغالات غسان نصار بشؤون اللذة نجدها في قصائد وليد الشيخ. التطابق في الخطوط العريضة للسيرة يذكّر بتطابق وليد مسعود (بطل رواية «البحث عن وليد مسعود») مع صاحبه جبرا ابراهيم جبرا. مع فارق أساسي وهو أنّ وليد مسعود إنسان متفوّق، والأخير ــ بتعبير من عرفوا جبرا عن قرب ــ هو «جبرا كما اشتهى وتمنّى أن يكون»، فيما غسّان نصار ليس متفوقاً، بل هو متواضع ومرتبك ولا يثير الحسد كوليد مسعود، بل إنّ تعاطفنا معه يمكن أن يصل حدود الشفقة. الشفقة أيضاً على ذواتنا التي قد تكون هي الأخرى متواضعة ومرتبكة، ومع ذلك تلوذ بإنسانيتها وتتمسك بما تبقّى من مفهوم الكرامة الإنسانية.
«العجوز يفكّر بأشياء صغيرة» رواية هزائم بامتياز. عائلة تفقد قريتها وتعيش في مخيم. نرى أهل الحارة عام 1977 يشاهدون خطاب السادات على التلفزيون بعيون متسعة: «لكن أكثر ما يتذكره الآن فوق الجسر هو الانكسار الذي حمله الناس الذين تفرقوا إلى بيوتهم بعد الخطاب. هزيمة من نوع خاص، كأنّ أخاً كبيراً مات أو سقفاً عالياً سقط عليهم فجأة». يبدو العمل كأنما يتخلله لحن مارش حزين في وداع الحلم الأممي تتسرب نغماته حتى من التفاصيل الايروتيكية. غسان نصار يعيش مشطوراً بين واقعه الممل في «الشؤون الاجتماعية» الذي يفشل في التصالح معه وبين ماض مترع باللذة لا يتمكن من استرجاعه.
الفتى الذي ورث الشيوعية، وكانت «علاقته بالحزب أشبه بالعلاقة العاطفية، لا أكثر» سيقدَّر له أن يشهد ــ في صدفة بدت له «مزحة سمجة» ــ صعود «عدد من الرجال إلى سطح الكرملين لإنزال الراية الحمراء» مساء 26 كانون الأول (ديسمبر) 1991. ثمة ملاحظات فنية يمكن إثارتها حول استعمال تقنيات تسجيلية تقترب قليلاً من التقنيات الصحافية في بعض المواضع، حين يستعين الكاتب بأحداث تاريخية كعلامات لرسم حركة الزمن في الرواية، لكن الملاحظة الأبرز (التساؤل بالأحرى) قد تكون حول الفصل الأخير من الرواية «الحقيقية»، حين يكشف الراوي عن موت غسان نصار (في تلك الحيلة الروائية التي تتحدث عن ملابسات العثور على المخطوط ونشره). قد يشعر القارئ هنا بأن هذا التعقيب من الراوي وكشفه لنفسه زائد، أو أنّ قسماً من المعلومات التي يقدمها زائد، أو أن هذا الفصل مزدحم وبحاجة إلى إعادة نظر في حبكته على أقل تقدير.
ليس ضرورياً أن يكون القارئ شيوعياً عربياً (أو كان هكذا ذات زمن)، وليس ضرورياً أن يكون قد اكتوى بفلسطين وأحلام تَحرّر الشعوب؛ لتمس الرواية وتراً عميقاً في نفسه. «العجوز يفكّر بأشياء صغيرة» تقرير أمين قدّمه الكاتب عن عالمه الداخلي قبل كل شيء، والأرجح أنه يمسّنا بعمق لهذا السبب بالذات.



مشاغبات شعرية

في مقابلة أجرتها معه جريدة «الايام» الفلسطينية، قال وليد الشيخ: «ترعرعت في أسرة شيوعية، حيث المكتبات مزدحمة بإصدارات «دار التقدم»، وكان للحزب دور في تثقيفي، وإن كانت نكسة الاحزاب الشيوعية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تركت الشيوعيين العرب كأيتام، لكني نجوت من سطوة الايديولوجيا لأنه قيض لي أن أكون في الاتحاد السوفياتي شهدت خلالها سقوط التماثيل والآباء المعلمين، وقد يكون جزء من مشاغباتي الشعرية نتيجة لمعايشتي لهذا السقوط المروع».