في هذه الندوة التي تدور رحاها حول جان داية، تتسارعُ أمام ناظري عدّة وجوهٍ له في محاولتي الإلمامَ بشخصِهِ ونِتاجِهِ الفكري. أوّلُ وجهٍ يتراءى لي هو وجهُ الصديق الوفيّ الودود الدَمِث الأخلاق؛ ثاني وجهٍ لهُ هو وجهُ الباحث الدقيق الصبور الجَلود الذي لا قعْرَ لجَلَدِهِ. أما الوجهُ الثالث، فهو وجهُ الناشط المؤمن منذ مطلع شبابه بالعقيدة القومية السورية الاجتماعية والمولِع بمنشِئها وزعيمها ولَعَ المريد الصوفي وعشقهُ لشيخ طريقته. تشهدُ على هذا العشق والولع متابعته لحياة زعيمه بدقّة متابعة الحزام الإلكتروني لتحرّكات السجين المسرّح. عايشهُ، كما تعايش الأم وحيدها، في نشأته، في هجرتِه إلى البرازيل، في تأسيسه لحزبه عام 1932، في اعتقاله من قبل سلطات الانتداب، في المحاكمات التي خضع لها، في هجرته إلى الأرجنتين، في عودته إلى لبنان عام 1947 ومحاكمته الصورية وإعدامه. ثم واصَلَ تنقيبه عمّا خفيَ عليه في حياة سعادة، فنبَشَ له عشرات الرسائل والمقالات المجهولة التي نشرها في مؤلفات عدة شكّلت تتويجاً لأبحاثه الكثيفة التي خصّ بها زعيمه.

لم تقتصرْ أبحاث جان داية على سعادة، بل تعدّتْهُ لتشمُل بعض المفكرين الذين عايشوه وبعض المناضلين الأشدّاء الذين طبعوا تاريخ الحزب القومي ببصماتهم. تابعهم كما يتابع الفلكي حركة النجوم وأتحفَنا بكتب عدة عنهم ككتاب «سعاده وهشام شرابي» وكتاب «هشام شرابي صحافياً» وكتاب «تجربة فخري المعلوف». أما أبحاثه عن سعيد تقي الدين فحدِّث عنها ولا حَرَج، خصّها بمجهودٍ هِرَقلي لا سقف لهُ. تلقّف شجرة سعيد وكاد يلفُّها النسيان فتجنّدَ يرويها ليلَ نهار ويعود إليها ذهاباً وإياباً كما يعود المحاربُ إلى أهله حتى حوّلها إلى شجرة استوائية تُظَلّلُ بأغصانها الوارفة الحزب القومي بأسره، فتحوّل سعيد بفضله من مثقّفٍ بين مثقفين إلى الرمز الثقافي لحزبِهِ شأنه في هذا الدور شأن الشاعر لوي أراغون لدى الحزب الشيوعي الفرنسي والشاعر بابلو نيرودا لدى الحزب الشيوعي الشيلياني. لا يسَعُني وأنا أتابع هذا الجهد البحثي الضخم الذي قام به جان داية والإصدارات الكثيفة التي نشرها إلا أن يستبدّ بيَ الإعجاب والتقدير. فبدا لي مؤسسةً ثقافيةً في رجل ونموذجَ المثقف العضوي بحسب مقولة غرامشي لجماعته الحزبية: فهو يقوّي وعيها الذاتي، يشدُّ من عضدِها، ينشرُ رسالتها ويحفظ لها مساحةً في حلبة الصراع الفكري الدائر في المجتمع.
لم يجد جان داية أيّ اعتراض بين أبحاثِهِ عن روّاد النهضة وأبحاثِهِ عن سعادة بل بالعكس رآها النتيجة الطبيعية لشغفه به وتتبّعه لسُلالة فكره. فروّادُ النهضة هم في نظرِهِ فجرُ النهضة فيما سعادة وسعيد تقيّ الدين هما ضحاها. يحرّكه في دراسته لهؤلاء الروّاد أقنومان: مدى إصرارهم على الهويّة السورية الجامعة ومدى دعوتهم إلى فصل الدين عن السياسة. وفي مسعاه هذا، يريد داية أن يقول لنا إن سعادة امتدادٌ لا بل تتويجٌ لهذا التيار الوطني الإصلاحي الكبير. وفي ندوة في لندن حول كتابه «عقيدة سعيد تقيّ الدين»، يُعلن بالحرف الواحد «أن ورشة النهوض الاجتماعي والقومي تقتضي الإضاءة على جهاد الروّاد ونتاجِهم. وهذه المهمّة تشكّل مبدأً أساسياً من مبادئ الأيديولوجية النهضوية. لذلك أصدَرتُ بالأمس عقيدةَ كلٍّ من المعلم بطرس البستاني والمصلح عبد الرحمن الكواكبي والمبدع جبران خليل جبران. وأصدَرتُ اليوم الجزءَ الأول من عقيدة سعيد تقيّ الدين وأُصدرُ غداً الجزء الثاني والأخير»، ثم يُضيف «في مرحلة النهوض القومي الاجتماعي، يتضاعفُ دورُ الأديب في الأمّة المتخلّفة المجزّأة».
انطلاقاً من هذه المبادئ، أبْحَرَ جان داية مستكشفاً عالم روّاد النهضة وتحوّل بفضل مثابرته وتنقيبه الحثيث إلى أحد المراجع التي يُركَنُ إليهم عن هذه الحقبة وإلى أهمّ الـمُلمّين إن لم يكن أهمّهم في الصحف والدوريات التي كانت تصدر أثناءها. بدأت رحلته بإصداره كتاباً عام 1981 عن الأب الروحي لهؤلاء الروّاد ألا وهو المعلم بطرس البستاني صاحبُ الشِعار الشهير «الدين للّه والوطن للجميع» ومُنشئُ جريدة «نفير سورية» والداعي إلى تحرير المرأة ومحاربة الجهل وتعميم المعرفة. لا شك في أن هذه المبادئ المطابقة لما نادى به سعادة في ما بعد، قد دفعت بجان داية أن يرى في المعلّم بطرس البستاني بشيراً كما يوحنا المعمدان لسعادة وعقيدته. ثم يتابع جان داية مشواره مع قافلةٍ أخرى من روّاد النهضة أمثال المعلم جرجي زيدان والدكتور شبلي شميّل والدكتور خليل سعادة والإمام عبد الرحمن الكواكبي. خصّ هذا الأخير بعنايةٍ خاصة تشبهُ عنايته بسعيد تقيّ الدين. زار حلب مرّاتٍ عدّة متحرّياً عن سيرة هذا المصلح الكبير ونَسَجَ علاقات صداقة مع أحفاد هذا الكاتب الجريء؛ فأطلعوه على ما يختزنون من أوراق ومستندات عن جدّهم، فأصدر داية على إثرها كتباً عدة عن مؤلف كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، منها كتاب بعنوان «صحافة الكواكبي» حيثُ ضمّنه مقالات الكواكبي في جريدتيه «الشهباء» و«الاعتدال» اللتين نشرهما تباعاً في حلب، ثم أصدر داية كتاباً بعنوان «الإمام الكواكبي، فصل الدين عن الدولة» حيث تابع جهودَ الكواكبي في تنقية السياسة من الفساد الذي لحِقَ بها نتيجة دمجها بالدين. ثم نَبَشَ للكواكبي جريدةً ثالثة أصدرها في مصر تحت عنوان «العرب» قبل سنتين من اغتياله بالسمّ، وكان المؤرّخون يجهلون وجودها تماماً. وعلى ذكر الكواكبي، تحضُرُني هذه الملاحظة الصائبة لداية حول تأثير البيئة ومشكلاتها على نتائج الفكر: فبينما ركّز مصلحو بلاد الشام أمثال الكواكبي على فصل الدين عن الدولة، اكتفى مصلحو مصر أمثال محمّد عبده بالمطالبة بالدولة الدينية المتقدّمة.
لن نفي دَيننا لجان داية إن لم نتكلّم عما يُعدّ أهم عطاءاته ألا وهو كتابُهُ عن «عقيدة جبران» الذي التهم إعداده عقداً من عمره متنقلاً بين مكتبة الكونغرس في واشنطن ومكتبة «شابل هيل» في نورث كارولينا، ومتصفّحاً كلّ الصحف والمجلات التي كتب فيها مؤلّف «النبي»، ولا سيما صحيفتي «السائح» و«مرآة الغرب». يقول داية في كتابه «إن القرّاء باتوا يعرفون أن جبران كان من المؤمنين بمبدأ فصل الدين عن الدولة، فضلاً عن إيمانه بمبدأ استقلال أمّته على كلّ الأصعدة السياسية والاقتصادية الثقافية. كما أن تعزيز اللغة العربية واعتمادها لغةً رسميةً لوطنه، إضافةً إلى التعليم الإلزامي المجاني. فهذا الشأن الاجتماعي بات معلوماً عن جبران. لكن الشأن القومي في العقيدة الجبرانية ما زال مشوّشاً في بعض مبادئه ومجهولاً في البعض الآخر». هنا تكمن الإشكالية التي حاول داية حلّها طوال الكتاب رغم أسلوب جبران الرمزي في الكتابة الذي يحول دون فهمنا ما يُريدُ قوله تماماً. يؤكّد داية في بحثه أنّ جبران لم يتخلّ طوال حياته عن تمسّكه بانتمائه إلى سوريا الطبيعية وأن تعبيرَيْ «السوريين» و«سورية» يمثلان لديه لبنان وفلسطين وسوريا الحالية. وعكس الصورة النمطية التي طُبعت عنه، لم يكن فقط منظِّراً بل مجاهداً سعى عبر الجمعيات التي انتسب إليها أمثال «جمعية الحلقات الذهبية» و«لجنة إعانة المنكوبين في سورية» و«لجنة تحرير سورية ولبنان» إلى تحريرَ بلاده من النير العثماني. وقد قسّم داية حياة جبران إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى كانت ثورية مع رجحان كفّة التنظير على الجهاد وهي تمتدّ من عام 1910 حتى منتصف الحرب العالمية الأولى، والمرحلة الثانية غَلَبَ عليها الطابعُ العملي على النزعة التنظيرية والنهجُ الإصلاحي على النهج الثوري وهي انتهت مع نهاية الحرب. أما المرحلة الثالثة والأخيرة، فتميّزت بالتنظير الثوري الذي بدأ يَخفّ مع جبران ثم يتلاشى في أواخر سنيِّ حياته.
أكمل جان داية بحثهُ عن جبران بإصداره كتاباً ثانياً تحت عنوان «لكم جبرانكم ولي جبراني» مع خمسين نصاً مجهولاً لهذا الأخير وهو يواصلُ في هذا الكتاب نسْف ما تبقّى من أفكار نمطية رائجة حول جبران. فهو ينفي طلاق أمّ جبران من زوجها الثاني ويصحّح تاريخ انتسابه إلى «معهد الحكمة» من عام 1897 إلى عام 1898 وتاريخ تأسيس «الرابطة القلمية» من عام 1916 إلى عام 1920، كما يُجهزُ على الصور المنشورة عنه وهو بمظهر الرومانسي الحزين ومقطّب الجبين ويقول عنه إنه كان رجلاً فرحاً «شريب كاس» فكِهاً وساخراً.
هذا العليلُ اليوم الذي ندعو له بالشفاء، أفنى عمره بحثاً وتنقيباً في المكتبات. قام بعملٍ أولمبي لا يجاريه فيه أحدٌ وأصدر عشرات الكتب والمقالات. لم يتهيّب عناءَ السفر لتحقيق مبتغاه. عايشتُهُ عن بُعد لمّا سافر ومكث مدّة في مصر ليجمع ما يتسنّى له من مقالات للشيخ يوسف الخازن مؤسس جريدة «الأخبار» وصاحب محاضرة لافتة بنبوءاتها عن الصهيونية، ثم عاد وأصدر هذه المقالات في كتابٍ تحت عنوان «أقوال وأحوال» كتبتُ مقدّمة له ضمّنته بحثاً مطولاً عن تاريخ مصر الخديوية. بَسَط عليّ جان من بعد كرَمه الثقافي، إذ راح يُغنيني بنشراتٍ ورد فيها ذكرٌ لوالدي وأسرتي وقع عليها أثناء أبحاثه الخاصة، وكانت تُدهشني هذه المروحة الواسعة من المراجع التي كان يتصفّحها. من بين الصحف التي أتاني بها جان عددان يحتلان موقعين خاصين في نفسي: أولهما جريدة «الجنة» بتاريخ 5 تشرين الأول 1871 يتضمن مقالة للمعلم بطرس البستاني يصفُ فيها رحلته إلى أعالي كسروان يذكرُ فيها، خلافاً للشائع، أن الثائر طانيوس شاهين أمضى باقي حياته على «مصروف بيت الخازن». والعدد الثاني جريدة «الوطن» بتاريخ 20 آب 1921 يستطلع صاحبها الشاعر شبلي الملّاط من والدي كسروان الخازن متصرّف جبل لبنان آنذاك ملابسات اغتيال قائمقام الشوف فؤاد جنبلاط. يتعجّب والدي من لعبة القدر حيث يُخبر الملاط أنه تسلّم يوم اغتيال جنبلاط بالذات كتاباً منه يقدّم فيه استقالته من منصبه. وهنا يعلّق شبلي الملاط على هذه المصادفة ببيت من الشعر:
والليالي من الزمان حبالى/ مثقلاتٍ يلِدن كلّ عجيبه
حسب جان داية فخراً أن أبحاثه وكتبه تبقى ممرّاً إلزامياً لكلّ باحث مقبل على دراسة عصر النهضة. ولا يسعني في هذه الليلة إلا أن أختم قولي فيه ممّا قاله يوماً حبيبُه جبران في تكريمه لجرجي زيدان: «من شأن أن يكرّم جان داية فليطب قسمته من خزائن المدارك والمعارف التي جمعها وتركها إرثاً للعالم العربي. لا تعطوا جان داية بل خذوا منه وهكذا تكرّمونه».

* كلمة ألقاها الباحث في ندوة «جان داية وتراث روّاد النهضة» التي أقيمت قبل أسابيع في «ملتقى السفير» (الحمرا) ـــ العنوان من اختيار هيئة التحرير