«الرسم لا يأتي من الذاكرة، وليس هو وليدها. إنّه ليس استدعاءً من الماضي، بل هو موضوع أو حالة، وهو يتحقق داخل واقع زمني محدّد ويحدث أمامي»، هكذا يصف الفنّان التشكيلي اللبناني منصور الهبر عمليّة إنجاز رسوماته الـ 75 التي جمعتها غاليري «Art on 56th» في معرضٍ افتتحته أخيراً تحت عنوان «رسومات على ورق».
عمل غرافيتي أنجزه الفنان في المدة التي تلت «ثورة تشرين»

لم يتوقف الهبر عن الرسم اليومي على مدار سبع سنوات، يختار نخبة من رسوماته اليوميّة التي يلتقطها في المقاهي والمنزل ومكان عمله ليشاركها مع زوّار معرضه. يتّضح من خطوط الرسومات، أنّها نُفذّت بسرعة رهيبة، كأنّ عينه هي عدسة الكاميرا التي تلتقط المشهد أمامه، لكنّ يده هي التي تجعلها صوراً خاصّة عبر انفعالاتها وقسوتها وسلاستها.
يصوّر الحيوانات والطبيعة وتلك الصامتة منها، لكن المرأة هي الغالبة في رسوماته، فيتلاشى وجهها على الورقة أو يبرز، وفي الحالتين تذكّرنا ملامحها بوجوه منحوتات الحضارات القديمة، أكثرها الفرعونيّة، كما يرسم جسدها بحالاته المختلفة، عارياً أو حاملاً للقماش. تتنوع التقنيّات والمواد في أعماله، فتجمع الرسمة الواحدة حيناً بين الحبر والفحم والباستيل والأكريليك والكولّاج (ميكسد ميديا Mixed Media) فتكون نابضة بالألوان، وتقتصر أحياناً أخرى على المونوكروم (Monochrome) فيكتفي الفنان باستخدام الرصاص أو الفحم والألوان المائيّة أو الحبر. وفي الحالتين، يحافظ الفنان على مساحات من الورق السميك ليصبح جزءاً متناغماً مع الرسمة.
تشعرنا سنوات التجارب والتراكمات والرسم المتواصل، بأن الهبر يلتقط المشهد من دون أي مجهود، وأن تعامله مع اللون والتقنيّة أصبح ملعبه، وعقله يركّب تأليف الرسمة في ثوانٍ. لكن أكثر ما هو لافت في معرض «رسومات على ورق»، لوحة تستحوذ وحدها على الحجم الكبير، تشعرنا بأنّها جزء من جدار اقتُلع من شوارع بيروت ليعلَّق في الغاليري. هذه اللوحة هي عمل غرافيتي (Graffitti) يجمع موادّ عدة على الورقة نفسها. يقول الهبر بأنّه أنجز هذه اللوحة في المدة التي تلت ثورة تشرين الأول (أكتوبر) عام 2019. في هذا العمل المتمرّد الذي أنجزه الفنان البالغ 54 عاماً الذي يمارس مهنة تعليم الفنون في جامعة الـ «ألبا»، نتلمّس نفساً شبابيّاً، يُظهر عقليّة الفنان المرنة، القادرة على استيعاب كلّ ما هو جديد أو مخالف للمعايير الأكاديميّة المعتادة بالنسبة إلى أستاذ جامعي. من الطبيعي أحياناً أن يتفوّق فنان في مهارة معيّنة على حساب أُخرى، كأن يبرع في التلوين والتقنيّة ويتجاهل الرسم، أو العكس. أمّا الهبر، فمعرضه الجديد هو خير دليل على أنه قد بلغ ذروته في جميع عناصر اللوحة وخصائصها. تنجح رسوماته المنفّذة على الورق في إبراز براعته الهائلة في التكوين والرسم والتعامل مع المواد بسلاسة من دون أي مجهود. كما تنجح في إبراز روحه المنفتحة على كلّ ما هو جديد بموضوعيّة.

* معرض «رسومات على ورق»: حتّى 29 حزيران (يونيو) - غاليري Art On 56th (الجمّيزة ــ بيروت). للاستعلام: 70/570333