الاحتجاج هو أولى لحظات الرفض المتّجه نحو فعل المقاومة فالتغيير. وإذا كانت هذه اللحظة/ الفعل معبَّراً عنها فنياً، فإنّها قد تشكل زخماً ذا قيمة تحريضية مؤثرة بما أنّها تتوسّل أسلوباً جمالياً. لقد نشأ المسرح عالمياً عبر تبني هذا الموقف الانتقادي التحريضي، وربما الثوري منذ بواكيره. وفي واقع يتسم بالانعطافات الحادة والانقلابات الاجتماعية والسياسية مثل الواقع العراقي، تبرز هذه الظاهرة الاحتجاجية كإحدى أبرز سمات ذلك المسرح المصاب بالغليان.
من المؤكد أنّ السنوات الأخيرة بثقل أحداثها قد شكلت عنصراً مسرّعاً لتنامي تلك الظاهرة وتفشيها في فئات عمرية متباينة ومساحات مكانية مبتكرة تتجاوز حدود خشبة المسرح إلى الشارع والحديقة العامة والساحات الرئيسة. هكذا، جعلت تلك العروض من بعض الملتقيات نوعاً من «هايد بارك» على الطريقة البغدادية المحفوفة بالمخاطر.
الصدمة التي حملها الاحتلال والتغييرات الدفعية التي تلت سقوط الصنم، أحدثت حراكاً مبكراً تمثل في أول مسرحية عفوية قدمت على أنقاض «مسرح الرشيد» عام 2003، وكانت بعنوان «ناجين». جاءت الأخيرة كأول صرخة واعية مأسوية لإدراك ما حصل من لوعة بين الرغبة في الانعتاق والوقوع في خيبة مضاعفة. هذا الأمر سيؤسس فضاءً آخر للانطلاق خارج المكان وداخله في ما بعد. انقسم مسرح الاحتجاج بعد سنوات وتبلورت أشكاله إلى مسرح احترافي تمثّله نخب من الكتاب والأكاديميين والمحترفين، ومسرح آخر لطلبة كلية الفنون الجميلة (أغلب عروضه داخل الكلية أو في منتدى المسرح)، فيما برز مسرح مفتوح يجمع فرقاً مسرحية شبابية تتخذ من الساحات والملتقيات ميادين بديلة ومواكبة للحدث تتجاوز خشبة المسرح والتحضيرات التي تفصلها عن إعلان صرختها اليومية الدامية. إلا أنّ كل تلك التشكلات أصرّت على عضويتها في الإسهام الثقافي والأخلاقي إزاء واقع الحدث الذي يمزق قلب البلاد ويستهدف شعبها وأسواقها وتاريخها بذات القوة والاتساع الذي تمسكت به بتصديها إزاء أشكال السلطة.
عروض شبابية
تمتاز بالمغايرة والانفتاح

ويبدو أبرز ما في هذا الحراك ما تقوم به الفرق المسرحية الرسمية مثل الفرقة القومية والفرق الشبابية التي تتخذ غالباً من مبنى القشلة ميداناً لعروضها. تتصدر المشهد المسرحي الاحتجاجي اليوم أسماء راسخة ذات تجربة مهمة مثل الثنائي عزيز خيون/ عواطف نعيم، والشاعر والمخرج المسرحي كاظم النصار، والكاتب ماجد درندش. قدّمت هذه الأسماء، تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً، أعمالاً ناضجة تشير إلى منحى الاحتجاج بأكثر صوره سمواً وأقرب أشكاله إتقاناً واحترافاً. عند هذه العتبة لا يمكن تخطي أعمال مثل «أنا والعذاب وهواك» للثنائي عواطف نعيم وعزيز خيون الذي شهر سيف انتقاده الحاد لمحاربة الفساد الإداري والنهب المنظم وتجويع الفرد العراقي الذي يسير فوق برك النفط من دون أن ينال شيئاً من كرامة أرضه وكرمها («انظر إلى حالي.. هل أبدو لك إنساناً نفطياً؟!» يقول الصعلوك البطل في أحد المشاهد). وقبل فترة، عرض «نون» الذي أعقب الصدمة الكارثية التي تلت سقوط مدينة الموصل وما يقرب من ثلث مساحة العراق بيد إرهابيي «داعش»، وما رافق ذلك من انتهاكات إنسانية مروعة وقتل وتهجير قسري للأقليات العرقية والدينية من أراضيها. كذلك، قدِّم عرض «الأسود أبيض» الذي ندد بما تعرّض له اليزيديون أيضاً.
أهم درس في تلك العروض أنّ صوت الاحتجاج المسرحي لم يعد معقّباً ولا محبوساً ولا ملغّزاً. إنّه الآن حدث يسهم في صنع القرار وتحريك العاطفة الشعبية والنخبوية على حد سواء. العروض الشبابية في هذا السياق تمتاز بالمغايرة والانفتاح، وعدم الانتقائية أو الحذر في قول شيء أو تناول قضية. وإذا كانت أغلب العروض الأخيرة تتركز أيام الجمعة من كل أسبوع في حدائق القشلة في شارع المتنبي بقصد الاحتكام إلى أكبر حشد معتاد من المثقفين والسياسيين والمتبضعين من ذلك الشارع الثقافي، فإنّ ذلك لا يمنعها من إقامة مهرجانات في أماكن أخرى من العاصمة وخارجها في أغلب المناسبات. إنّ إطلاق المسرح الاحتجاجي كسلاح ثقافي في مواجهة الخراب والتمزيق الذي يعصف بمصير العراق والمنطقة بأسرها، لهو إسهام تحريضي مؤثر ومنبّه إلى نوع المأساة وشكلها. قد لا ترتقي هذه الأعمال إلى مستوى تحريك الواقع والتحكم به، لكنها تطمح إلى توفير الفهم لما يتحرك من وقائع تتسم بالعداء وصناعة ثنائيات بغيضة مثل ثنائية الأنا والآخر... ذلك الآخر الذي هو أناي وقد شوشت طريق عودته قناديل مزيفة!