البصرة... المكان الأول
الشعر العربي في شتى عصوره شعر مكاني، فالوقوف على الأطلال (المكان) جزء أساسي من بنية القصيدة الفنية، يستخدم في استعاراته وتشبيهاته وتوصيفاته، عناصر بيئته الصحراوية (المكان) في كل الأغراض، سواء أكانت مدحاً، أم غزلاً، أم وصفاً. يكاد يكون المكان ظاهرةً في الشعر العراقي الحديث. يعدّ سعدي يوسف أكثر شعراء العرب على مرّ العصور ارتباطاً بالمكان، ورسوخ المكان في شعره يكشف لنا عن نسقيته. في إحدى مقابلاته، يكشف صاحب «بعيداً عن السماء الأولى» عن نظرته إلى المكان، التي تكشف بدورها مرجعيته الثقافية. يقول: «فعلاً أعتبر أنّ القصيدة الجاهلية أهم قصيدة في الشعر العربي. ففي القصيدة الجاهلية، تجد أمامك كثافة من أسماء الأماكن والأسماء الجامدة، والأعلام». نظرته إلى المكان تقترب من رؤية الشعر الجاهلي للمكان، إذ كتب عن كل المدن التي وطأتها قدمه. مع ذلك، تبقى البصرة مدينة التشكّل والتكوين، ذات بعد خاصّ في نفسه وشعره، فالشعراء الذين ولدوا في القرى والأرياف، مثل سعدي يوسف المولود في قرية حمدان في قضاء أبي الخصيب في البصرة، لا ينظرون إلى المكان بصفته الجغرافية، بل هو مكان مجرد ذو بعد هندسي. هو حمل البصرة في رأسه كيوتوبيا، فحين يتحدث عنها، كان ينتقي صوره من محيطه المكاني المتمثل في البحر والسفينة، فالبحر واجهة المدينة، والسفينة مركزها التجاري. استخدم مستوى وصفياً للأماكن تظهر عبره حياة المدينة وطباعها. لكنه أظهر البعد الجغرافي والتاريخي والثقافي للمدينة عبر ذكر بعض الأماكن التي لها أسماء مطابقة لجغرافية المكان، مثل استدعائه لـ«بويب»، والمعروف عن بويب أنه نُهير وظّفه السياب ليحوّله إلى أسطورة.
بغداد مركز السلطة، مثّلت له مكاناً جحيمياً، عكس البصرة التي كانت الفردوس المفقود
البصرة جاءت رمزاً للألفة والجمال، عبارة عن لوحات خضراء من مناظر طبيعية، فلم تظهر معاناة الشاعر مع المكان. كثيراً ما استخدم معجماً غزلياً لمكان ولادته (ثغر الصباح، الندى، قمم الورد، سحر الأصائل، الهوى)، وفي رأينا ولادة الشاعر في القرية، حيث الماء والخضرة، هي التي جعلته يلوّن المدينة بأكملها بصورة خضراء، فالصورة التي ارتبطت في ذهنه منذ الطفولة لعبت دوراً في تشكيل رؤيته الشعرية، حيث ارتبط ارتباطاً لا واعياً بالأرض الأم (البصرة). صورة البصرة بالنسبة إلى الشاعر تختلف عن بقية الأماكن، لهذا نراه يفصل بين أرض العراق، والبصرة الخضراء، فهو قد حصر الخضار بمدينة البصرة. وهذا يفسر أثر المكان الذي تركه في نفس الشاعر. هو مكان حميمي أمومي، رغم التحول الذي طرأ عليه. تمثّل له البصرة صورة الوطن المحلوم به، أو المتخيل، ومن يقرأ شعره يلاحظ الفرق في خطابه الشعري بين بغداد والبصرة، فبغداد مركز السلطة، تمثّل له مكاناً جحيمياً، عكس البصرة الذي تمثّل له فردوساً، ولكنه فردوس مفقود.
الشيوعي الأخير... المقاوم الأول
كان الفكر الماركسي أبرز المرجعيات الفكرية والثقافية خلال حقبتي الخمسينيات والستينيات في ثقافة العراق. هذا نلمحه في شعراء تلك المرحلة، وأبرزهم سعدي يوسف. تتمظهر الأيديولوجية الشيوعية في غالبية قصائده، ولكنها تبرز بقوة في قصيدة «إعلان سياحي إلى حاج عمران». وهو الذي أطلق على نفسه «الشيوعي الأخير». شيوعيته تتمظهر ليس عبر مدح أفكارها، بل أيضاً في إدانة الأيديولوجيات المضادة لأفكار الشيوعية مثل القومية. وقد لصق جميع أفعال الموت بالأفكار القومية، وهذا ما جعله يربط «حزب البعث» ونظامه في العراق بالتعذيب والقتل. ومثلما ظهر البعثيون بصورة الجلادين، ظهر الشيوعيون بهيئة ضحايا مظلومين عندما صورهم «معصوبين مشدودين كالموتى». لم يكتفِ بالتعاطف مع أيديولوجيته باستظهارها في مواقف معينة وإدانة الأفكار المضادة، ولكن تتجلّى أيضاً في تضميناته وتناصاته، فمعجمه معجم حربي نضالي ثوري، والثورة والنضال يمثلان أبرز أدبيات الفكر الشيوعي. غالبية قصائده لم تخرج عن نسق الفكر الماركسي، فكانت مشحونة بالتمرد والاحتجاج ورفض الواقع الذي خلقته السلطة السياسية، وإدانة الحرب، ومناهضة الإمبريالية والاستعمار. لم يكن محتجاً في الشعر فقط، فالمعلوم أنه شارك في مقاومة إسرائيل وحمل السلاح في وجهها في بيروت في حقبة الثمانينيات. وتتمظهر أيديولوجيته المناهضة للرأسمالية التي تكون أميركا وجهها الحقيقي عندما يصف تمثلات هذه الأيديولوجية وأدواتها التي توظفها في خدمة أجندتها الاستعمارية مثل الصواريخ الإلكترونية أو الكاميرات التلفزيونية، وغيرها.
ذهب الشاعر وأخذ معه سره، حين ترجّل سعدي يوسف نحو الأبد تاركاً الحياة، وإرثاً أدبياً عظيماً، في الشعر والترجمة والرواية والمقالة. لم يأخذ المعنى في قلبه مثلما يقولون «المعنى في قلب الشاعر»، بل تركه داخل القصيدة، وهذا ما أبّد قصيدته وخلّدها.