للينين مقولة في وصف المجتمعاتِ الطّبقيّة: «في كلّ أمَّةٍ أمَّتان»، تنسجِم مع حكمتِنا الشّعبيَّةِ الشرقية: «النَّاسُ طوبٌ وحَجَرٌ». وعليه، فنحنُ لا نعتبرُ الغرب كتلةً أيديولوجيَّةً واحدةً؛ فقد بيَّن التَّفاعل مع ملحمة الطُّوفان أنَّ فيه ذواتاً ومثقَّفين وقوى حيَّةً يقِظة الضَّمير؛ بل إنَّ بعضَها مثل نعوم تشومسكي، نورمان فنكلشتين، يانيس ڤاروفاكيس وقوى يساريَّة وحركات طلَّابيَّة لم تقف عند مناصرة الفلسطينيِّين، بل تحدَّت محاولة الصحافة الصهيونيَّة إحراجَها بالسؤال الفجِّ الذي كانت تنتظر منه أن يدينوا لجوء المقاومة الوطنيَّة الفلسطينيَّة إلى العنف الثوري على أراضٍ محتلَّة وفقاً للقرارات الأمميَّة ضدَّ قوَّة احتلال لا حقَّ لها في التَّذرُّع بحق الدفاع، وفقاً لما أقرَّته المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة لكلِّ فرد أو جماعة خاضعة للاحتلال.

من هذا المنطلق، وبعدما كرَّسنا، في الأسابيع الماضيَّة ملفَّات لتفكيك ما في المنتوج الأدبي والفكري لوجوه غربيَّة ـــ عُرِفَت بميولها التحرريَّة والديموقراطية ـــ مِنْ نزعة احتقاريَّة للعرب عامَّة تُنْكِرُ عليهم حقَّهم في التَّطلُّع إلى الاستقلال والتَّحرُّر، إنكار وصلَ حدَّ الانحياز إلى القوى الإمبرياليَّة دائماً، وإلى ربيبها الكيان الصهيونيِّ غالباً؛ نشرعُ اليومَ في تناول الوجه المضيء والمستنير المنشقّ عن هذا الغرب الاستعماري، عبر أسماء مرموقة انسلخت عن قطيع التّفكير الطّيِّع للرأسمالِ المعولَم بالحروبِ لتتَّخذَ مواقفَ منحازةً لنصرة المستضعَفين.
وأنت تتمعَّن في صورة أَرْيِيلَّا عَائِشَةْ آزُولَايْ التي وضعَتها على صفحتها الأكاديميَّة الشخصيَّة، يثيرُك زيّها وحليُّها الطافحانِ بروحها الشَّرقيَّة: مِشْبَكٌ لِزينةِ الفساتين على الجِدارِ يسارَها؛ قْمُجَّةْ (قميص) أمازيغيَّةٌ سوداء، عِقدٌ مِنْ عقائقَ تتدلَّى منه عملات جزائريَّة، مغربيَّة، تونسيَّة، إسبانيَّة، برتغاليَّة، فلسطينيَّة (قبلَ 1948)، مِنَ الأرشيفِ الذي احتفظَ به والدُها، للدَّلالة على هوياتها المتعدِّدة والمتقاطعة التي لا يُضيرُها عدم تجانسها. فهي ترى أنَّ التجانس عمليَّة كولونياليَّة تتمُّ بقوَّة السلاح وما تسمِّيه «الهندسة البشرية» الاستعماريَّة. لا ترى آزولاي أيّ تنافر في جمعها بين عقيدتين وجنسيَّتين، مع استردادِها لاسم جدَّتِها لأبيها (عائشة) للدلالة على استعادة ما حاولت الكولونيالية الفرنسية والإسرائيلية سلبه إيَّاها، فأوَّل الحروبِ بالنَّسبة إليها تستهدف الذاكرة. آزُولَايْ أستاذة الثقافة المعاصرة والإعلام والأدب المقارَن في «جامعة براون» الأميركيَّة أصدرت العديد من الأعمال أبرزها: «التاريخُ المحتمَل، نبذُ طِباع الإمبريالية» (2019) و«من فلسطين إلى إسرائيل: سجلّ فوتوغرافي للدمار وتشكيل الدولة، 1947-1950» (2011) و«شرط الدولة الواحدة: الاحتلال والديموقراطية بين البحر والنهر» (2012). هي أيضاً قيمة فنية ومخرجة تتجلَّى راديكاليَّة طروحاتها في حصافة قراءتها للأرشيف الفوتوغرافي الاستعماري وفضحها لتعاضد القوى الكولونياليَّة في تدمير النسيج الاجتماعي للدولة التي تحتلّها عبر تَعْرِيقِ (racialisation) الصراع بضرب التنوُّع الثقافي واختزاله في ثنائيَّات تناحريَّة (مسلم/يهودي، عربي/ أوروبي، إسلامي/ يهومسيحي). إلَّا أنَّ الأجرأ في تناولِها هو عدم اكتفائه بمناهضة فكرية الكولونياليَّة وإنما الانخراط في تيار راديكالي جديد، لم يعد يكتفي بالموقف، وإنَّما صار فاعِلاً في النَّشاطِ الأممي في تفكيك الكولونياليَّةِ (décolonialisme)، فهي ترى أنَّه عبر الممارسة السياسية والفكريَّة، لا يزال ممكناً تصفية كلِّ آثارِ الإمبرياليَّة بالمقاومة الرامية إلى إفشال برامجها ومحو عواقبها. نترجم هنا رسالة مفتوحة نشرتها أزولاي رداً على تقرير كتبه المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا عام 2021 بناءً على طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتجاهل فيه «ذكر كيف أنّ فرنسا أجبرت العرب اليهود على تبنّي شخصية الأوروبي ونيل جنسيته في مقابل النظر إلى العرب والمسلمين بصفتهم «الآخر»» على حدّ تعبير آزُولَايْ:

عزيزي بنجامين ستورا
في عام 2017، أقرَّ الرَّئيس الفرنسيُّ إيمانويل ماكرون بأنَّ استعمار الجزائر كان جريمةً ضدَّ الإنسانية. كنتُ أتطلَّعُ، مع كثيرينَ غيري، إلى قراءةِ تقريرِك الَّذي صدرَ أخيراً حول هذا الموضوع، الذي كتبتَه بِتكليف مِنَ الرَّئيسِ. ومع ذلك، بعد قراءته، شعرتُ بِالفزعِ لِخُلُوِّهِ مِنْ مناقشةِ جرائمِ الإمبرياليَّة، ولا أستطيع فهم هذه الإِغْفَالَاتِ. ورغم أن ثمَّةَ منها الكثيرُ، إلَّا أنَّني سأركِّز على واحدةٍ منها: تدميرِ الثقافاتِ اليهوديَّة في ِالمغربِ الكبيرِ.
ومِثْلَكَ، لديَّ رهانٌ شخصيٌّ في هذه الأمور. لقد وُلِدْتُ في عام 1962، وهو العامُ الذي انتهتْ فيه الحرب، عندما أُجْبِرَتْ عائلتي وعائلتك و140 ألفَ يهوديٍّ آخَرَ على مغادرةِ الجزائر كنتيجةٍ مباشِرةٍ لاستعمارِها الطويل. وكما لاحظْتَ في كتابك الصادِرِ في عام 2006 بِعنوان «الْمَنَافِي اليهوديَّةُ الثَّلاثَةُ مِنَ الجزائرِ»، فقد سَبَق هذا النَّفْيَ اثنان آخران. حَدَثَ الأوَّل في عام 1870، عندما فَصَلَ مَرْسُوم Crémieux اليهودَ عنْ بقيَّة ساكِنَةِ الجزائرِ وحوَّلهم إلى مواطنين فرنسيِّين في بلدِهم. والثاني في عام 1940، عندما ألغتْ حكومة فيشي هذا المرسوم وأسقطتْ معه الجنسية الفرنسية عن يهود الجزائرِ الّذين فَرْنَسَتْهُمْ آنِفاً. لَكَمْ كان كتابك مفيداً جداً لي عندما بدأتُ، منذُ أكثرِ مِنْ عِقد، في طرح أسئلة حولَ الهُوِيَّة الملفَّقَة التي أُلصقت بي عند ولادتي: «إسرائيليَّة». وكلَّما تعمَّقْت في دراسة الآليَّات المصطَنَعة التي سُخِّرَتْ لِفصْلي عنْ أسلافي اليهودِ الجزائريِّين، كلَّما قلَّ تعرُّفي إلى نفسي في هذه الهويَّة الملصَقة بي. فقد رفضتُها مرَّتين: أولاً، كشكل من أَشكالِ الانتماءِ؛ وثانياً، كنمطٍ إمبرياليٍّ للتاريخ، كَجهد لتحديدِ بدايةٍ جديدةٍ (في عام 1948)، كقطيعةٍ بين ما صُيِّرَ «ماضياً» وما أُريدَ له أن يكون مستقبَلاً. أَعلنَ إِنشاءُ دولةِ إسرائيل الانتماءاتِ والتَّشكيلاتِ السَّابقةَ إمَّا غيرَ موجودةٍ (فلسطين) أو في غيرِ محلِّها (اليهود الجزائريُّون، اليهود العراقيُّون، وما إلى ذلك). مِمَّا قلَّلَ مِنْ قيمة تفرُّدِ مجموعاتٍ متنوِّعةٍ مِنَ اليهودِ، وأعادَ تشكيلَهم وتحويلَهم إلى مجموعةٍ لا تمايُزَ فيها. خطوةٌ واصَلَتْ بِفعَّاليَّةٍ المشروعَ النَّابوليونيّ لِتنميطِ الحياةِ اليهوديَّة، ما جعلَ «الشعب اليهودي» ضِمْنَ موضوعٍ تاريخيٍّ-قوميٍّ، لا يمكن تحقيقه بِالكامل إلَّا عبر دولةٍ ذاتِ سيَّادةٍ خاصَّةٍ بها.


عندما بدأت في جمع التّأريخات والذِّكريات عن هُوِيَّتِنا، نحن اليهودِ الجزائريِّين، الممتدَّةِ حتَّى وقتٍ ليسَ بِبعيدٍ، لاحظتُ تشابُهاً مُذهلاً بين الهُوِيَّةِ الكولونياليَّة الاستيطانيَّة المُلْصَقَة بي والهوية المُلْصَقَة بِأسلافي الجزائريين عام 1870. غادر والدِي الجزائرَ إلى إسرائيل في عام 1949، واضطُرَّت بقيَّة عائلتي إلى المغادرة في عام 1962 إلى فرنسا، تاركين وراءهم أكثر مِنْ ألفَيْ عامٍ مِنَ الحياة اليهودية العربية في المغرب الكبيرِ. بِوسعنا القولُ إَّنا مِنْ أصولٍ جزائريَّة، لكنَّ الكولونياليَّة دمَّرتِ العالَم المشترَك الذي تجسَّدت فيه هذه الهُوِيَّة مادِّيّاً. عندما صُيِّرَ أسلافي مواطنِين فرنسيِّين، لم يَكُفُّوا عنْ بقائِهم مستعمَرين؛ وكان «منحُهم» الجنسية الكولونياليَّة الاستيطانيَّة شكلاً آخر من أشكال الكولونياليَّة الاستيطانيَّة الفرنسيَّة، لا نهاية لها. وبِالفعل بدأت عمليَّة الاستئصالِ. فُصل اليهودِ عن أُناسٍ عاشوا بينَ ظُهرانَيهُم وشاركوهم اللُّغةَ، المعتقَداتِ، الخِبْراتِ، التَّقاليدَ، المَناظرَ الطَّبيعيَّةَ، التّواريخ والذكريات. رحَّبَ بعضُ اليهودِ الجزائريِّين بِالجنسيَّة الفرنسيَّة، ولكنْ في عام 1865، رفضَ معظمُهم التَّقدُّمَ بِطلبٍ لِلحصولِ عليها. المَنافي الثلاثة الَّتي تَصِفُها في كتابِك أمثلةٌ على الثَّمنِ الباهِظ الَّذي دفعَه اليهودُ مقابل جنسيَّةِ مستعمِريهم، وهو القرارُ الَّذي أثَّر على أحفادِهم أيضاً. وفي حقيقة الأمرِ، فإنَّ البعض اختارُوا الامتثالَ لذلكَ — ووجدوا لاحقاً طُرُقاً لِلإفادةِ مِنْ جنسيَّتهم — بما لا يجعلُه أقلَّ مِنْ تكنولوجيا كولونياليَّة، تُجْبِرُ النَّاس بِالقوَّةِ على أنْ يصبحوا غيرَ ما هُمْ عليه.
إنَّ دراسةَ العلاقةِ بين هاتين الهُوِيَّتَين الاستيطانيَّتَيْن، الفرنسيَّةِ والإسرائيليَّةِ، ساعدَتني على فهمِ الدورِ الذي لعِبَتاه في خدمةِ مصالحِ القُوى الكولونياليَّة الأوروبية الكبرى: أي فصلِ اليهودِ عن العربِ والمسلمينَ ودمجِهم في «التَّقليدِ اليهومسيحي» المصطَنَعِ. بطبيعةِ الحالِ، تطوَّع بعضُ اليهودِ لِوضعِ أنفُسِهِم ضِمنَ «الإطارِ الأكبرِ لِلحضارةِ الغربيَّةِ»، كما وصفَتْهُ سُوزَانَا هِيشِلْ. لكنَّ هذه الحقيقةَ توضِّحُ فقط الدّور المهم الذي لعبَه — وما زال — الهجوم الكولونيالي على التنوُّعِ البشري، وَحوافِزُه في «الاستيعاب» ضِمْنَ المشروعِ الكولونيالي. وبينما تمَّ استيعاب يهود المغرب الكبير والشرق الأوسطِ قسراً ضِمْنَ الشَّخصيَّةِ الأوروبية لليهودي كَمُواطِنٍ، فقد دُرّبوا على رؤيةِ العربِ والمسلمينَ كآخَرين. وأصبَحوا، عبر دولةِ إسرائيلَ، يَعتبرونَهم أعداءً لَهُمْ.
ومِنَ المؤسِف أنَّ هذا السِّياقَ مفقود تماماً في تقريرِك. إذ لم تَذكر المَنَافِي الثلاثة التي كتبتَ عنها سابقاً. ومع ذلك، ينبغي فهمُ المنفى الأوَّلِ على أنَّه الخلفيةُ التي يمكِن أن تَنشأ عليها دولةُ إسرائيل الكولونيالية الاستيطانيَّة القائمة على تدميرِ فلسطينَ. وعندما حلَّ المنفى الثالث في عام 1962، قامتْ إسرائيل، فعلاً، بِترسيخِ العداءِ بين اليهودِ والعربِ وجعلَتْه مِنْ ثوابِتِ الحالةِ اليهوديَّةِ. وبعبارةٍ صريحةٍ، فإنَّ دولةَ إسرائيلَ تشتغِلُ، مِنْ بينِ وظائفَ أُخرى، كَمُصَفٍّ لِلْمُسَاءَلَةِ الفرنسيَّةِ عن جرائمِ فرنسا الكولونياليَّةِ ضدَّ اليهودِ في الجزائرِ وفي البلدانِ الإسلاميَّةِ الأُخرى. تُعَدُّ المواطَنة الكولونياليَّةُ والدَّولةُ الاستيطانيَّةُ اليهوديَّة، في هذه الصَّفقةِ، «هدايا» كولونياليَّةً تَهدِفُ إلى جبرِ ضررِ ضحاياها بِالعُملةِ الكولونياليَّةِ مِنْ أجلِ الحفاظِ على استمرارِ المشروعِ الكولونياليِّ. بِـ«منحِهم» الجنسيَّةِ الفرنسيَّةِ والدَّولةِ القوميَّةِ اليهوديَّةِ، كان يُتَوَقَّعُ مِنَ اليهودِ المهندَسِينَ إِمبريالياً، كما مِنْ أحفادِهم، أن يَمْضُوا قُدُماً بِبساطة، وأنْ يَنْسُوا العالَمَ المدمَّرَ الَّذي ما زالُ مُمْكِناً أنْ يكونوا جزءاً مِنْه، لِيُصبِحوا، بدلاً مِنْ ذلك جزءاً مِنَ العالَم الإمبرياليِّ، كمواطِنين-مشغِّلين لِلتِّكنولوجياتِ الَّتي تُواصِلُ ارتكابَ جرائمَ ضدَّ الإنسانيَّةِ.
حسناً، أنا أرفضُ هذا جملةً وتفصيلاً. هذه الصَّفقات لا تُنهي الكولونياليَّةَ، بل تَعملُ على إدامتِها. إنَّها تُسهِّلُ تعيينَ بعضِ اليهودِ لِاضطهادِ يهودٍ آخَرين يواصِلون النِّضال من أجلِ تصفيةِ الكولونياليَّةِ بالكامل لمصلحة جميعِ أولئك الذين كانوا وما زالوا مستعمَرين ومن أجل تفكيكِ المؤسَّسات التي وُضعت لتسيير المشروعِ الكولونياليّ. لقد وَقَعَ أسلافُنا في المغربِ الكبيرِ ضحيَّةً مباشِرةً لِلعنفِ الكولونياليِّ، حتَّى مع قَبولِهم التَّدريجيِّ لِلصَّفقاتِ المفروضةِ عليهِم عبر هذه المنافِي الثَّلاثةِ. فهلْ يتوجَّبُ علينا، نحنُ أحفادهم، أنْ نَقبَلَ بها وأنْ نَلتزمَ بها؟ ألا يحِقُّ لنا مواصلةُ النِّضالِ ضدَّ الكولونياليَّتينِ الفرنسيَّةِ والإسرائيليَّةِ، والنِّضالُ مِنْ أجلِ قلبِ نتائجِ الجرائمِ الإمبرياليَّة؟
أَشعرُ أنَّنا لسنا مؤهَّلين لِلقيامِ بِذلك فَقط، بل ملزَمون به. أنا لا أَعتبر الجرائمَ الإمبرياليَّةَ أحداثاً ماضيةً؛ فهي لا زالت فعَّالةً في واقعِ الأمكنةِ، ولا يزالُ يتعيَّن تفكيكُ وإلغاءُ المؤسَّسات والهياكلِ والقوانينِ التي ما زالت تفعِّلها. لا يُمكِن لِلتَّاريخ أنْ يُوَلِّد المعجِزة التي يتوقَّعُها منه مهندسو الإمبرياليَّةِ — أنْ يجعلونا نَعتقد أنَّ الجرائمَ الإمبرياليَّة قد انتهتْ عندما أَعلن الإمبرياليُّون أنَّهم أنهوها. يؤدِّي تقريرُك وظيفةً مُماثِلة، بِحيثُ يحاولُ إيداعَ هذه الأحداثِ في ذمَّةِ الماضي، حتى مع استمرارِها في الوقتِ الحاضرِ.
يُجسِّدُ تقريرُك، في الحقيقةِ، ما أَقترِحُ أنْ أُسمِّيه المنفى الرَّابعَ لِليهودِ الجزائريِّين: محوَهم مِنْ تاريخِ استعمارِ الجزائرِ. يقدِّمُ تقريرُك المكوَّنُ مِنْ 160 صفحةً فقرتَيْن فقط عن الطَّائفَة اليهوديَّة الموجودة في ما مضى في الجزائرِ. في الواقعِ، لم تكن ثمَّةَ طائفةٌ واحدةٌ، بل طوائفُ يهوديَّة-أمازيغيّة ويهوديّة-عربيّة متعدّدة ومتنوِّعة. ولم يُجبَروا على أن يصبحوا وحدةً متجانسةً قسراً إلَّا عبر الجريمةِ الكولونياليَّةِ ضدَّ الإنسانيَّة، تمهيداً لِمحوِها كليّاً. إنَّ تصفيةَ هذه الطوائف، التي تبلغ عراقتها ألف عام، أصبحتْ بِالتالي حدَثاً غير مهمٍّ، لَا-حدثاً، في تقريرِك، وتمَّت صياغتُها على أنَّها علامةُ تقدُّمٍ. لم يتمَّ ذِكرُ الجرائمِ المرتكَبةِ ضدَّهم: المَنافي الثَّلاثةُ، معاداة السّاميةِ الأوروبية المستورَدة، إعادة التربية القسرية، فصلهم عن ثقافتِهم، حبسُهم في معسكَرات اعتقالٍ جزائريَّةٍ.
إنَّ طمسَ هذا التَّاريخِ يَعكسُ الصَّفقاتِ الكولونياليَّة الَّتي حوَّلت هذه المَنافي إلى «إنجازاتٍ» مفترَضة لِليهود، بإدخالِهم إلى عالَمِ الحداثةِ العَلمانيَّة المستنِير. وبهذه الطريقةِ، زوّدت دولة فرنسا بِـ«دليل» عِلميٍّ على أنَّ استعمارَها استَهدفَ المسلمِين والأمازيغَ حصراً (على أساسِ أنَّ الأخيرينَ يُفترَضُ فيهم أنْ يَستبعِدوا اليهودَ). لِهذه الإغفالات عواقبُ وخيمةٌ. بعدما تأثَّرتُ بِالمشروعَيْن الكولونياليَّيْنِ الفرنسيِّ والإسرائيليِّ لِلهندسةِ البشريَّةِ، لم أتمكَّن مِنْ تجميعِ قصَّةِ آلاف السِّنينِ مِنْ الحياةِ اليهوديَّةِ في ِالمغربِ الكبيرِ إلَّا عندما بلغتُ الخمسينَ مِنْ عُمري وحصَّلتُ بعضاً مِنْ ذكرياتِ أسلافي، حُرِمْتُ مِنْها عبرَ عمليَّةِ جعلِنا مواطِنينَ صالحين للإمبراطوريَّةِ.
وِمْن أجلِ إزالةِ اليهودِ، بِأثرٍ رِجعيٍّ، مِنْ 132 عاماً مِنَ الاستعمارِ، يتعيَّنُ على المرءِ أنْ يؤيِّدَ نتائجَ العنفِ الإمبرياليِّ بِاعتبارِها تقدُّماً. وإلَّا فَلِمَ تُمحَ هذه المجموعةُ مِنْ تاريخِ المشروعِ الكولونياليِّ الفرنسيِّ؟ ولكنْ، هل مِنَ السَّهل جداً تصديقُ روايةِ التَّقدُّمِ هذه؟ هلِ اختارَ اليهودُ أنْ يكونوا هدفاً لِمعاداة الساميَّة النَّابعِ من سلوكياتِ المستوطِنين بِمجرَّد أنْ أصبَحوا فرنسيِّين؟ هل كانوا يَرغبون في مغادرةِ الجزائرِ عام 1962؟ هل اختاروا أنْ يكونوا متواطِئين مع مشروعِ إنهاءِ الحياةِ اليهوديَّةِ في ِالجزائرِ؟ هل وافقوا على الخروجِ الجَماعيِّ مِنْ عالَم أجدادِهم؟ كيفَ أخذْتَ على عاتِقِك دورَ دفنِ هذا العالَم؟
فكّكت الأرشيف الفوتوغرافي الاستعماري وفضحت تعاضد القوى الكولونياليَّة في تدمير النسيج الاجتماعي للدولة


هذا السُّؤالُ الأخيرُ — لماذا تمَّ اختيارُك، أنتَ على وجهِ الخصوصِ، لِكتابةِ هذا التَّقريرِ — يتطلَّب اهتماماً بالِغاً. وبعيداً منْ خِبرتِك، أظنُّ أنَّني لستُ الوحيدةَ الَّتي تعتقدُ أنَّه تمَّ اختيارُك جُزئيّاً لِأنَّك يهوديٌّ — وبِسببِ موقعِ اليهوديِّ في المشروعِ الكولونياليِّ. مِنَ الصَّعبِ التَّحدث بِصراحةٍ عنْ هذا الاحتمالِ في وقتٍ يَتِمُّ خلالهُ حفظ الاستعمالِ الحصريِّ لِمعنى معاداةِ السَّاميَّةِ مِنْ قِبَلِ دولٍ قوميَّةٍ إمبرياليَّةٍ تَدعمُ الكارثةَ الَّتي اقترَفَها نظامُ دولةِ إسرائيلَ المصطَنعُ. ومع ذلك، علينا أنْ نَتَفَكَّرَ في ما يعنيه ذلك.
إنَّ قيامَ الحكومةِ بِاختيارِ يهوديٍّ لِكتابةِ هذا التَّقريرِ ليسَ أبداً مِنْ قَبيلِ المصادفةِ، بلْ هوَ فَخٌّ. في هذا العالَمِ الذي ما زال إمبرياليّاً، يُتوقَّعُ مِنَ اليهودِ أنْ يتصرَّفوا كمواطنين بيضٍ، لِيُثبِتوا، كما كَتبتْ حُورِيَّةْ بُوثَلْجَةْ «استعدادَهم لِلاندماجِ فِي النَّزعة العِرقيَّةِ لِلبيضِ... لِتجسيدِ شرائعِ الحداثةِ». اختُلق هذا الموقفِ على الأقلِّ عبر ثلاثِ صفقاتٍ إمبرياليَّةٍ لا يُمكنُ التَّشكيكُ فيها. أُولاها، تتلخَّصُ في صفقةِ المواطَنة: فلا ينبغي لِلمواطِنِ الفرنسيِّ الصَّالحِ مِنْ أصولٍ يهوديَّةٍ أنْ يترُكَ يهوديَّتِه في بيتِه، خاصَّةً وهو يمارِس مهنتَه. لقد أثبتَّ بِالفعلِ، في كتابِك، هذا النَّوعَ مِنَ الوطنيَّةِ الفرنسيَّةِ عبر تصويرِ هذه المَنافي الثَّلاثةَ لِليهود كأحداثٍ ماضيةٍ، وموضوعاتٍ لِلبحثِ التَّاريخيِّ. ومع تحوُّلِ حياتِهم المشترَكةِ مع المسلِمين إلى ماضٍ مضى، فمِنَ المُمكِنِ دمجُهم في التَّاريخِ الأوروبي. أما ثانِيها، فقَبولُ مرسومِ كْرِيمْيُو كما تصوَّرَه مهندِسوه — بِاعتبارِه مَنحاً لِهِبَةٍ، أكثرَ مِنِ استخدامٍ أُحاديٍّ لِلقوَّةِ، وهو ما كان له دورٌ فعَّالٌ في تدميرِ أنماطِ حياتِهم المتنوِّعةِ. يُغْفِلُ هذا التَّصويرُ كيفَ سُرِقَ مِنَ اليهودِ تراثُهم وعالَمُهم وتقاليدُهم. ويَفترض ثالِثُها أنَّ فرنسا قامتْ بِالفعلِ بِتسويَّةِ ديونِها تجاه «الشَّعبِ اليهوديِّ» كموضوعٍ تاريخيٍّ في عام 1995، عندما اعترفتِ الدَّولةُ بِمسؤوليَّتِها عن ترحيلِ اليهودِ مِنْ فرنسا في الحربِ العالميَّةِ الثَّانيَّةِ. ناهيكَ بأنَّ جرائمَ فيشِي ضِدَّ اليهودِ الجزائريِّين حدثتْ في الجزائرِ وأنَّ حياتَهم في الجزائرِ لا يمكنُ نقلُها بِأثرٍ رجعيٍّ إلى فرنسا.
بِقَبولِ هذه الصَّفقاتِ، فإنَّ تقريرَك يقدِّمُ نفسَه على أنَّهُ تاريخٌ غيرُ متحيِّزٍ، محايِدٌ، يَعملُ على تعزيزِ مهمَّةِ الدَّولةِ بِإخلاصٍ. ولكنْ، هذه هي المشكلةُ بِالضَّبطِ. لا يوجدُ شيءٌ مستوفٍ لِلشروطِ القانونيَّةِ في التَّعاملِ مع جرائمِ الإمبرياليَّةِ. لقدِ اخترعتِ الإمبراطوريَّةُ الماضيَ وكلَّفتْ أُمناءَ الأرشيفاتِ والمؤرِّخين بِتحويلِ جرائمِها إلى موضوعاتٍ لِتحقيقٍ تاريخيٍّ غيرِ متحيِّزٍ. حتَّى إنَّها تُوَظِّفُ ضحاياها لِيقولوا إِنَّها لم تَرتكبْ أيَّ جريمةٍ ضدَّهم. ولِمقاومةِ هذا المحوِ الإمبرياليِّ، لا ينبغي للمرءِ أنْ يكونَ محايِداً: يتعيّنُ علينا، خصوصاً، المطالَبةُ بِأنْ يُكتَبَ التَّاريخُ بِأيدي ضحايا هذه الجرائمِ. حصراً أولئك مِنْ بينِهم الَّذين يرفضون النِّسيانَ، والَّذين يمكنُهم التَّحدُّثُ مِنْ هذا المنطلَقِ، فهُم في وضعٍ يسمحُ لهم بِإبطالِ عملِ الإمبراطوريَّةِ وتعزيزِ قضيَّةِ ما أُسمِّيه نَبْذَ طِباعِ الإمبرياليَّةِ. ولا ينبغي السَّماح لأيِّ مؤرِّخٍ بِارتكابِ مثل هذه الإغفالاتِ الكُبرى. ولا ينبغي لكَ أنْ تفترضَ أنَّ ضحايا الجرائمِ الكولونياليَّةِ وأحفادَهم يوافقون على هذه الصَّفقاتِ الَّتي كان معناها، وما يزالُ، تصفيَّةَ عالَمِهم المتنوِّعِ.
وبدلاً من خدمة هذا المشروع الإمبرياليِّ، كان حرِيّاً بِتقريرِك أنْ يقدِّمَ بِلا هوادةٍ قائمةً فيها مِنْ تفاصيلِ الجرائمِ الفرنسيَّةِ المرتكَبةِ ضدَّ الجزائريِّين ومِنَ الجرائمِ الكولونياليَّةِ ضدَّ الإنسانيَّةِ. كان لذلك أنْ يرسمَ خريطةَ العلاقاتِ بين هذه الجرائمِ والمؤسَّساتِ الإمبرياليَّةِ — الشُّرطةِ، السُّجونِ، الرَّأسماليَّةِ العنصريَّةِ، الأرشيفاتِ، المتاحفِ، المواطَنةِ الممنوحةِ وغيرِها — الَّتي مكَّنَتْها مِنْ تسهيلِ حدوثِ عواقبِها المستمرَّةِ في فرنسا، ولا سيَّما تجاهَ الجزائريِّين، المستهدَفين في آن مِنْ قِبَلِ دولةٍ تعاني مِنْ رُهابِ الإسلامِ وتمارِسُ معاداةَ السَّاميَّةِ. ولو كنتَ استجبْتَ لهذه الدَّعوةِ، مؤكِّداً على موقفِك كعربي يهودي ضحيَّة لِلاستعمارِ الفرنسيِّ لِلجزائرِ، لكنتَ طالبتَ أيضاً أنْ يَتَشَارَكَ معك في تأليفِ التَّقريرِ فرنسيٌّ مسلمٌ مِنْ أصولٍ جزائريَّةٍ. كان مِنَ الممكِنِ أن تكونَ تلك فرصةً لِتكوينِ صورةٍ أَكْمَلَ لِلجرائمِ الإمبرياليَّةِ وعواقبِها المتبقِّيَّةِ، وقلبِ المنفى الخامسِ لِليهودِ، أي فَصْلِهم عنِ العربِ والمسلمين في العالَمِ الجديدِ الَّذي وَجدوا أنفُسَهُم يَتقاسمونَه خارجَ وطنِهِم، في فرنسا. بِهذه اللَّفَتَاتِ، كان يمكن حتَّى لِتقريرٍ رسميٍّ أنْ يزوِّدَ أحفادَنا بِالمواردِ اللَّازمةِ لِمواصلةِ العملِ مِنْ أجلِ إِلغاءِ الإمبرياليَّةِ. وبدونِها، فإنَّ تقريرَك لا يؤدِّي إلا إلى ترسيخِها.

* الرسالة المفتوحة، على الرابط التالي: https://www.bostonreview.net/articles/ariella-aisha-azoulay-benjamin-stora-letter/