شهدت السنوات الأخيرة اهتماماً بظاهرة الشعبويّة من المفكرين في أوروبا والولايات المتحدة، ولم تخرج تونس عن هذا السياق، وخصوصاً في السنوات الخمس الأخيرة بعد النجاح الكاسح الذي حققه الرئيس قيس سعيّد في الانتخابات الرئاسية في خريف عام 2019. في هذا السياق صدر كتاب للمحامي لدى المحاكم الفرنسية حسين الباردي بعنوان «دفاعاً عن الشعبوية: قيس سعيّد والإسلام السياسي ومستقبل اليسار» (دار أركاديا ـــ تونس). يستعرض المؤلف هنا كمّاً كبيراً من المعلومات التاريخية عن تمثّل الشعبوية في أكثر من مكان في العالم. «يدافع» عن الشعبوية التي تدينها الأدبيات العربية، قائلاً: «من المألوف القول إنّ التصنيفات والمفاهيم السياسية لها تاريخ، ولكن من غير الدّارج أنّ لها جغرافيا. مثال ذلك «الشعبوية» التي لا تعتبر توصيفاً سلبياً في روسيا وأميركا اللاتينية والولايات المتحدة الأميركية، خلافاً لما لصق بها من دلالات تكاد تكون «تجريمية» لدى نخبنا العربية ومثيلاتها الأوروبية». ويضيف: «تحيل الكلمة إلى مسايرة عواطف الجماهير ونزواتها». يضع الباحث كتابه في السياق السياسي التونسي، إذ بدأ الاهتمام بهذا المصطلح مع انتخابات عام 2019 وتصنيف بعض المرشحّين على أنّهم شعبيون لكنّه يتجاوز ذلك للحفر في نشأة الظاهرة والمصطلح، عائداً إلى الثورة الروسية وإلى ماركس وأنجلز. يستعرض الباحث بعض التجارب، عائداً إلى الجذور التاريخية للشعبوية اليسارية الثورية وإلى ماركس وأنجلز. يرى أن الشعبوية ليست أيديولوجيا بل منطقاً سياسياً: «إفلاس السياسيين التقليديين وعجزهم عن إيجاد الحلول للأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والمؤسساتية والبيئية والقيمية، قد شكّل تاريخياً، ولا يزال، المناخ الملائم والتّربة الخصبة لظهور الشعبوية كبديل عن كل هذه الإخفاقات». ويشير الباردي إلى الشعبوية اليسارية السائدة أيضاً «في كل أنحاء العالم إلا عندنا نحن العرب. والسبب في ذلك يرجع بحسب اعتقادنا ليسارنا الماركسي العاجز عن التفكير الخلّاق والبناء والمراكمة، والذي لم يجرؤ على القيام بالمراجعات النقدية الضرورية». ويضيف متحدّثاً عن اليسار التونسي «لم يطرح على نفسه ضرورة المأسسة ونبذ الشخصنة، ولم يوفق في عصرنة أساليب عمله الخرقاء» في حين نجح اليسار في أميركا اللاتينية في الأورغواي وبوليفيا والمكسيك خصوصاً.
في فصل بعنوان «بناء الشعب»، يدرس مقاربة مفهوم الشعب في علاقته بالسياسة والسلطة والديموقراطية و«الاستبداد الديموقراطي». كما يتوقّف عند البروباغندا في علاقتها بالهيمنة والنموذج الفاشي، وصولاً إلى ما سمّاه بالشعبوية التلفزيونية المبتذلة. يشير إلى هيمنة السلطة على الأعلام زمن الرئيس الراحل بن علي الذي أسقطته انتفاضة شعبية، فـ «المكاسب التي تحققت للإعلام ما كانت لتوجد لولا ثورة الشعب التونسي على الاستبداد ونجاحه في إسقاط رأس النظام القديم من أجل الظفر ليس فقط بالحرية وإنما أيضاً بالكرامة والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وكذلك البيئية». يضيء الباحث على التجربة التونسية أو ما سمّاه «نقد الشعبويات التونسية» التي قسّمها إلى: الشعبوية اليمينية الدينية العدوانية، والشعبوية اليمينية الماضوية الدستورية، وقيس سعيد بين الثورية والمحافظية أو الازدواجية الشعبوية. يتوقف عند قيس سعيد والشعبوية كوصمة سياسية والشعب والشعبوية والنظرية الجرثومية وبدائل عن الرؤية الأرستقراطية التحقيرية والرؤية الاتباعية والمسكوت عنه في ثورة قيس سعيد الثقافية والرؤية النقدية والحس المشترك أبعد من ثنائية التحقير والتمجيد.
ويختم كتابه بفصل خامس بعنوان «مدخل إيكولوجي لبناء الشعبوية اليسارية» ليتناول القضية الإيكولوجية ومستقبل اليسار الثوري من وجهة نظر شعبوية وتناول ماركس للقضية البيئية مروراً بالجرائم البيئية في تونس، وخصوصاً مدينة قابس المنكوبة التي كانت تسمى جنّة الدنيا على حد عبارة الرحّالة البكري. وينتهي في هذا العمل الأكاديمي إلى مجموعة من الاستنتاجات منها اعتبار حدث 25 يوليو 2021 نهاية الاستبداد الديموقراطي في نسخته التونسية ويقول «بناء على ما سبق يمكننا القول إنّه حتّى إذا ما سلّمنا جدلاً بأن ظهور الشعبوية وتناميها يفسّر حصرياً بالأزمة الظرفية التي تعيشها الديموقراطية النيابية الفوقية، فإنه من غير الممكن تجاهل المضاعفات التعاقبية الحقيقية لهكذا «تشخيص» سطحي على مستوى النظام السياسي برمّته مثلما تدلّ على ذلك كل المؤشرات و«استطلاعات الرأي» التي تعكس انهيار الثقة في الأجسام الوسيطة والمؤسسات الديموقراطية جميعها، من برلمانات وحكومات وأحزاب ومسؤولين سياسيين وإعلام وجمعيات ونقابات… لكن الحقيقة في الواقع أشدّ وأنكى».
واعتبر الباردي في سلسلة استنتاجاته أن ما حصل في تونس منذ عام 2011 و الانتخابات الأولى التي قادت الأخوان المسلمين إلى الحكم «التفاف ممنهج على الثورة الاجتماعية وسعي محموم من طرف المنتصرين بغاية الحمل على التصديق واتصال الاعتقاد في صدقية «الشرعية الانتخابية» و«الانتقال الديموقراطي» و«الوسطية» و«الهدنة الاجتماعية» و«التوافق» و«التدافع» وما إلى غير ذلك من كلام فارغ».
هذا الكتاب يمثّل حفراً في مفاهيم الشعبوية عبر مراحل متعدّدة في علاقة مع المفاهيم الثورية واليمينية وصولاً إلى التجربة التونسية، وما اعتبره مصادرة الأخوان المسلمين على الانتفاضة الشعبية وتأسيسهم لنموذج «ديموقراطي» مزيف أقرب إلى الاستبداد وترويج الوهم.
والواضح أن حسين الباردي اليساري المستقل أفاد من تجربته الطويلة في العمل الحقوقي والسياسي في تونس وباريس قبل عام 2011 قبل أن يختار مسافة من كل الأحزاب والتيارات السياسية لكتابة هذا العمل المرجعي الذي يبرز جهداً واضحاً في البحث الأكاديمي.