أعمال المؤلّف الموسيقي اللبناني عبدالله المصري تخاطب الوعي التأويلي لدى الجمهور والنقاد، وتحثّ على تذوّقها وإعادة اكتشافها بتمعّنٍ يتيح الاستمتاع راهناً بجرعات التجريد الذهني النوعي في سياقات البُنى التأليفية. نصّه الموسيقي نخبوي وشيّق، فيما تُعَدّ أغانيه شعبية نسبياً في «فرقة الجبل» التي بدأت تتشكّل عام 1978. مع الفرقة المذكورة، برزت محلّياً أغنيتا «جايين من الأرض السمرا» (كلمات فيصل القنطار) و«إلى الأعلى حناجرنا»، و«نشيد الرجال» (1980) على سبيل المثال. ألّف المصري في إطار الموسيقى القالبية العربية «سماعي راست فا» (1983) بصيغته الأوركسترالية البوليفونية، وكان ذلك ضمن متتالية بوليفونية بعنوان «بالمزاج العربي» وقد اشتملت على سبع مقطوعات ذات طابع بوليفوني. لمعَ في العديد من الأعمال، أبرزها «كونشرتو البيانو رقم 1» (2002- 2003)، و«مطر» (سُجّل في موسكو، 2012)، وهو قصيد سِمفوني لسوبرانو شرقي وبيانو وأوركسترا يرتكز نصّه على «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب (غناء الفنانة أميمة الخليل)، و«من قلبي سلامٌ لبيروت/ تحية لأرواح شهداء بيروت» (2020) وهو عمل مؤثر أطلقه بعد انفجار مرفأ بيروت، وكونشرتو العود (مع عازف العود سمير نصر الدين، 2022)، وسواها. لعبدالله المصري أيضاً وجهٌ أكاديمي وعلمي، إذ ألّف كتاب «الهارموني: تناغم الألحان» (دار صوفيا ــــ 2020).
يُطلعنا عبدالله على بدايات علاقته الوطيدة وولعه بالأنغام. في عمر الـ 12 سنة، بدأ يتعلّم الموسيقى والعزف على آلة الغيتار مع أستاذه وقتذاك في المدرسة في المرحلة المتوسّطة ثم الثانوية. يقول لنا: «أستاذ عيسى السكاف متنوّع التخصّصات، فهو مسرحي، ومخرج، وعازف غيتار، وله الفضل في توجيه ذوقي الاحترافي».
ينأى عبدالله المصري عن الجاهز، والمعلَّب، والسائد، ولعبة الإبهار، متبحّراً في كُنه المادّة الإبداعية. يقول لنا إنّ الأخوين رحباني وفيروز كانوا وما زالوا المنارة الأساسية في طموحه الموسيقي، مؤكّداً أيضاً أنه حرص على مراعاة مزاج المقام الطربي العربي في البوليفوني (تعدّد الأصوات) في «سماعي راست».
ينقّب المصري عن الجماليّات، فيجترحها بفرادة وإتقان أو يجبلها انسجاماً مع خلفيّته الشرقية وتطلّعاته. موسيقاه نابضة بالتنوّع البنّاء، وزاخرة عموماً بدرامية عائمة في غور النوستالجيا الرومانسية، وأحياناً في تراجيديا موجعة. أخبرَنا بأنه كتبَ سوناتا الكمان عن ولادة مقاومة الاحتلال، سوناتا بحركتين (ما هو مغاير للمفاهيم الكلاسيكية)، الأولى اسمها «ولادة»، والثانية «رقصة».
الأخوان رحباني وفيروز هم المنارة الأساسية في طموحه الموسيقي


يكشف عبدالله المصري لنا عن عمله المقبل الذي لا يعرفه الجمهور وسيطلقه قريباً، ألا وهو سمفونيته الثالثة التي يصفها بأنّها «محطّة انتقالية بكل تفاصيل البناء الموسيقي». بعد السمفونية الأولى، ثمّ الثانية التي كانت تجريدية هادئة، توقّف المؤلف فترةً تجاوزت 16 سنة، وعاد إلى كتابة الثالثة. يعلمنا بأنها تكوّنت من حركتين (الأولى «نهايات»، والثانية «الرقص الضائع»)، ما يُعَدّ غير تقليدي، ولها تسمية مزدوجة المفهوم -وفقاً لشرح عبدالله- وهي Cadences أو «خاتمات/ نهايات». إنها تسمية غير متفائلة. كأنّ المؤلف يغلق الستار على مسيرة طويلة استمرّت لأكثر من 40 سنة من التجارب الممهورة بالجسارة. تتميّز الحركة الأولى بالإيقاعات البطيئة الهادئة، كأنها أمواج كبيرة لا نهاية لحدودها، علماً أنّ ثمّة «سلالة سمعية تبرز في سمفونيته»، وقد تبدّت انعطافاً جذرياً لأسلوبه المعهود باتجاه الوضوح المطلق. يصف عبدالله ذلك بأنه «استقرارٌ روحيّ لنضال غير مجدٍ يبحث عنه المبدع ويعود إلى حقيقة واضحة هي البداية والنهاية للأشياء». أما الحركة الثانية (رقصات ضائعة)، فهي عبارة عن مجموعة أفكار تحتشد وتفترق بنشاطٍ راقص غير موزون لتشكّل موجةً طويلة تستمر 16 دقيقة، تنتهي باكتمال دائرة لحنية - راقصة، «وفيها سخرية من مواقف بطولية اجترّها كثيرون في أغانيهم الوطنية». ثمّة حماسة سمعية وذروات عالية استُخدمت فيها الأوركسترا بمهارة غير مسبوقة. هناك أيضاً قوّة صوتية ضخمة مع شفافية ووضوح لكلّ خطوط البناء، ونبضٌ لا يتوقف إلا بنهاية السمفونية، فيما تتمظهر «قفلة» السمفونية عنيفةً، حاسمة، وصارخة.
يتهيّأ المؤلف حالياً لتسجيل سمفونيته الثالثة «في أهم استديوهات موسكو على مسرح يحمل صفة سمعية طبيعية» على حدّ تعبيره. وسيدير المصري العمل في إطار القيادة مع «أوركسترا راديو موسكو أورفيه».