في ألبومه السابق «أحلى من برلين» (2020)، قدّم عازف البيانو والمؤدي الفلسطيني فرج سليمان (1984) تجربةً غنائيةً مختلفةً، استحقت أن يُحكى عنها لسببين: الأول لمحاولته التغريد خارج السرب، متشبّهاً بتجارب فلسطينية مهمة مثل فرقة «صابرين» مع ألبوميها المُلهمين «جاي الحمام» و«دخان البراكين»، وثاني الأسباب هو الضحالة السائدة في المشهد الفنّي العربي، لناحية الجاز الشرقي كما يسمّيه زياد الرحباني. نجحت أغنيات «أحلى من برلين» في أن تجد لها مكاناً لدى مستمعي الأغنية النوستالجيا/ القصة، لكن ألبومه الجديد «جبنا للولد بيانو» (2023) جاء بمثابة تكرار للأخطاء التي مرّ بها في المرحلة الأولى.
(فنسان أربوليه)

في الألبوم الأوّل، عانى سليمان من مشكلة في الصوت، فهو لا يمتلك مهاراتٍ «غنائية» من أي نوع، بل يؤدي لا أكثر ولا أقل، وفي هذا هو يتشابه مع تميم البرغوثي وهشام الجخ وسواهما من شعراء هذه المرحلة. جاءت معظم أغنيات الألبوم، مؤداة، لا مغناة، وأحياناً شابها شيء من النشاز الخفيف لكنه محمول، ويبدو أن المؤدي الشاب كان قد تدرّب في الألبوم الأوّل، لكنه في هذا الألبوم وقع في هذا الفخ بقوة. نتوقف عند أغنية «الملكة» من ألبومه الجديد أو كما يسمّيها بالإنكليزية Down with the London bridge والتسمية بحد ذاتها تطرح أسئلة، كأنّما للأغنية «مسميين» و«معنيين»، ألم يكن من الأجدى تسميتها بـ«فلتسقط الملكة» كما تعني التسمية بالإنكليزية؟ ربما هناك حكمة في الموضوع، لكن المستمع لا يعرفها. في الأغنية، يجهد سليمان في غناء الأغنية، فكلامها يشبه الاستظهار العربي، والأناشيد الطفولية ذات الأوزان من نوع: «من أجلك أصنع طيارة، من أجلك أرسم بمهارة». القصة قد تكون جميلة، لكنها أقرب إلى قصة نثرية، تصبح أثقل من النص، وأثقل بالتأكيد من المؤدي. نشعر بفرج سليمان يركض ويشد صوته في مزجٍ أقرب إلى النشاز المؤدى، فهل هذا كان مقصوداً؟ أم أنه لم يتنبه له ولم ينبّهه إليه أحد؟ أدائياً نحنُ نتحدث عن إنهاك لمغنٍ لا يجيد الغناء، لكنه يحاول رغماً عن كل شيء، جعل قصيدة «منهكة» مغناة، وهذا أصلاً صعب على صاحب صوت محترف وجميل. وهذا يظهر بوضوح، وخصوصاً مع طول الأغنية الذي يصل إلى 13:30 دقيقة.
النقطة الثانية هي اللحن. لا يخفى على أحد أن فرج سليمان متدرّب منذ طفولته على عزف البيانو. لكن فعلياً لم يظهر عزف البيانو الخارق، ولا معزوفات متفرّدة في الألبوم؛ إذ جاءت معظم الأغنيات بألحانٍ بسيطة تكرارية ونسخٍ متفاوتة ومتغيرة بعض الشيء عن ألحان الألبوم الأوّل، ولا اختلاف جذرياً بينها. ذكر بعضهم بأنّ تجربة سليمان تذكّر أو متأثرة بتجربة زياد الرحباني، لكنّ ألحان الرحباني الذي قدّم «سألوني الناس» و«أبو علي» و«جاي مع الشعب المسكين» لا يمكن مقارنتها نهائياً بأحد، ناهيك بأعمال بسيطة اللحن مثل ما يقدمه سليمان في ألبومه. موسيقياً ليس في ما يقدمه سليمان أي «تعريب موسيقي» و«موسيقى افتتاحية» كتلك التي نشهدها لدى أغنيات بليغ حمدي. طبعاً هنا، سيستغرب القارئ أن يقارن فرج ببليغ حمدي، وسيعتبر أنه أمرٌ لا يصح، وهذا حقيقي، وفي الوقت نفسه لا يصحّ مقارنته بزياد الرحباني كليةً. يجهد سليمان لتقديم موسيقى بسيطة، مشابهة لفكرة ألبوماته، وهذا أمرٌ لا مشكلة فيه، لكنه ليس تجربة موسيقية رائدة كما أشارت إحدى المقالات حول الألبوم، ولا هو تجريب. إنه ببساطة موسيقى خلفية والسلام. مثلاً في أغنية «بتعرف شو فكرت»، ليست هناك أي إضافات موسيقية من أي نوع. الأمر نفسه ينسحب على «تهليلة لعاطف»، وإن يبدو أنّ هناك عملاً في منتصف الأغنية على محاولة لحن من نوعٍ ما، وهو ذاته ما نراه في «يمكن بدوّر ع الوجع»، لكنها تجارب ألحان، وليست «ألحاناً تجريبية». إنها تبدو أبسط بكثير من أن تدعى ألحاناً حقيقية ذات بنية متكاملة. طبعاً يمكن الحديث طويلاً حول تشابه الموسيقى في مختلف لحظات الألبوم.
«جبنا للولد بيانو» (2023) تكرار للأخطاء التي مرّ بها في المرحلة الأولى


أما أكبر إشكاليات هذا العمل، فهي الكلام، الشعر، القصة، الحبكة. في الألبوم السابق، أتت أغنية «في أسئلة براسي» كواحدة من أقوى وأجمل أغنيات الألبوم، لا بل يمكن اعتبارها، واحدةً من أفضل أغنيات وَقتها: كانت قوّة الأغنية متأتية من كونها قصة تحكي عن شابٍ وفتاة في مجتمع شرقي ظالم، مازجاً جزءاً من النوستالجيا الفلسطينية مع تلك التي يعانيها المهاجرون العرب في ألمانيا والغرب. هكذا هي الرؤية الأولى للأغنية، لكن بعد غوص أعمق فيها، تبدأ الإشكاليات المرعبة بالظهور، وخصوصاً مع المرور «السهل/ الطبيعي/ والعادي» لكلمات عبرية وتوصيفات «عبرية» لأماكن عربية:
«مين أجّر داره لمشتاپ؟ طيب مين صار أرخص ديلر؟
مين مسكته مرته عَـ الحامي، ماخد صاحبته عَـ تسيمر؟
بعدا بتمشي الكرمليت؟»
«المشتاب» و«التسيمر» و«الكرمليت» كلمات توصيفية عبرية لأماكن وأحداث، كيف مرّت بهذه السهولة والسلاسة، كما لو أنّها عادية؟ هل يجب أن نقبل بتطبيع الفكرة وعاديتها ونتأقلم معها بمعنى أن تصبح لغة الحوار/ الخطاب. هذا التمرير/ التبسيط مخيف ومرعب في آن. تمر كلمات الشاعر مجد كيال باعتبار أن هذه الأمور عادية والناس يقولونها بين بعضهم. لذلك لا مشكلة في استعمالها كلغة خطاب. صحيح أن واجب الكاتب/ الشاعر أن يكتب الواقع، لكن في زمن الصراعات المصيرية، والقضايا المركزية كالصراع العربي الإسرائيلي، يجب ألا يستهان بحرب الكلمة والمصطلح، وهذا ما غاب كلياً في أغنيةٍ مماثلة. نشير إلى أن الشعب الأرمني مثلاً يرفض حتى اليوم قول/ نطق أي كلمة تركية أو استخدام أو التواصل مع أي شيء تركي بسبب المجازر التي قامت بها تركيا ضدهم القرن الماضي، فكيف بصراعٍ عربي إسرائيلي لا يزال مستعراً حتى اليوم، وفي كل لحظة يقوم الصهيوني بقتل الفلسطينيين والعرب بكل بساطة. الخطيئة نفسها ترتكب في هذا الألبوم من خلال تسمية أغنية «عرب إسرائيل». مَن هم عرب إسرائيل؟ لا يقبل سكّان أميركا الأصليون بأن يدعوا أنفسهم «هنود أميركا»، بل هذا ما يقوله المحتل الأبيض عنهم. لماذا يستخدم المؤدي الفلسطيني توصيف المحتل الأبيض لشعب بلاده ولنفسه؟ الأغنية ككلمات لا تجيب عن قباحة التسمية، لكن وجودها بحد ذاته يعتبر مهيناً ومزعجاً للشعب الفلسطيني ونضاله. هذا الاستسهال اللفظي والاستعمال المهين للتوصيف واللغة بهذا المنطق، قد يعتقده بعضهم بسيطاً وعادياً، لكنه ليس كذلك البتة.