ليس الكلام عن المرجع السيد محمد حسين فضل الله (1935-2010) كرجل دين وسياسة تعاطى بهما على مساحة تفاصيلهما الواسعة فحسب، بل هو عن هذا الإنسان الاستثنائي، الذي تشبّعت مداركه، وتهذبت مشاعره طفلاً، ومراهقاً، وشاباً على حمل هموم أمته، وقضاياها المحقة، فأضحت تشكل رافداً وسم كلَّ عطاءاته لاحقاً من مواقف، ومحاضرات، ودروس وتحركات، وكانت تنطلق من أصالة متوافقة مع تلبس بصفات شخصية مساعدة، أكّدت حضوره حتى بعد الغياب الجسدي، كعلّامةٍ سلك درب الأبواب المفتوحة على الجميع، ففرضت عليه مذهباً سلوكياً وحياتياً مثقلاً في طريقه الشاق. ليس من الهيّن أن تسكن في الوعي الجمعي، وأن تتجذّر في الوجدان العام في بلد كلبنان مشرّع الهوى على كل الأفكار والتناقضات، فقليلون من يسعفهم الحظ العظيم أن يمتلكوا قدرات شخصية تواكب حركتهم كي يطفئوا ما يشتعل من نار هذه التناقضات المريرة. كان السيد محمد حسين فضل الله المرجع الإنسان قبل أي شيء، بلا فواصل يصطنعها مع الناس، حتى البسطاء منهم بلا فرق وكان حبه لهم من ميزاته، التي جعلته الأب الحنون، وصاحب القلب الكبير، الذي يدخله الصغير قبل الكبير في البيت، وفي المسجد وأينما كان وحلّ وفي أي وقت شاء ولو في منتصف الليالي.

ليس الفقه عنده صنعة حرفية ميكانيكية اجترارية، فهذا خُلف الإبداع، بل هو جهد في قالب حي متحرك بمفاتيح القراءة المنفتحة والعصرية، التي تتشبع الجو العام للنصوص الدينية من قرآنية وحديثية بلا فصل، أو تقطيع أو اغتراب عما يمسك روحيتها العامة، ويضبط بوتقتها في طريق خدمة الإنسان والحياة مشفوعاً بذوق أدبي مطلوب لطرق باب النصوص العصية وتطويعها.
من هنا تميزت آثاره وتنوعت إسهاماته بين التفسير والفقه والعقيدة والأدب والفكر والسياسة. وكل ذلك كان في زمن مشحون وصعب، ومخاض عسير تمر به البلاد، فأسس مداميك العمل الإسلامي والجهادي في خضم تحديات وطروحات تغلي على كثير من التقلبات، والتوترات والشعارات من يمينية ويسارية، ولم يتجاوز الخطوط الوطنية داعياً إلى مواطنة شريفة كريمة تحقق كيان الإنسان وتحفظ له حقوقه.
غوصه في التفاصيل حتى الصغيرة منها في كل شيء جعل منه منظّراً من الطراز الرفيع، فابتعد عن انغلاقات التكتيكات المرحلية، ليرسم استراتيجيات تتصل بمسار الأمة ومصيرها. السياسة عنده فن احترام الآخر ومحاورته بجو تقاربي ينفتح على الفكرة والحقيقة بلا إملاء. إنها السياسة الجميلة، التي تُبرز روح الأديان في سوس الناس نحو مصاف العدل، والتسامح، والتلاقي ونبذ العصبيات، التي ترمي الإنسان في سوْرة الماديات.
طروحاته حول قيادة الحياة وفعل الإنسان دلّت على مدى تشبّع أفكاره بروحية أصيلة استندت إلى خبرة طويلة في ممارسة العمل التوعوي على الصعد كافة. مثقف غزير الاطلاع وصاحب تجربة دينية وروحية خصبة في صفاء جليل، ولم يكن الأمر هيناً عليه بين روحه الكبيرة وواقعه المشحون بالتناقضات، فحاول قدر الإمكان تبسيط لغة الدين والعقل إلى ما وراء الحواس بغية انتشال الواقع من زيف المألوف نحو فضاءات أكثر تناسباً، وهو ما جعله يصطدم بكثير من العوائق من بيئته من إشاعات ومحاولات تشويه وحصار. آمن بأن التغيير الداخلي المنطلق من النفوس المخلصة كفيلٌ بأن يعيد للذات جدَّتها وأصالتها وتسعفُ النفس من تشظّيها وتبلسم ما قد اقترفته يد السياسة الخبيثة.
يعيش وطننا اليوم أزمة وجود وهوية وانتماء تتقاذفه المشكلات والتحديات، وقد رُمي في بحر متلاطم بأمواج الطائفية والمذهبية والفئوية، كما يعاني من ندرة وجود القيادات الرشيدة الحكيمة صاحبة الوعي المنفتح والواسع والأصيل، فصغار النفوس يستشرسون، ويتقاتلون على بلد منهك وشعب محروم مستغل، ناهيك بأزمة وجود قيادات مخلصة حتى ضمن العمل الواحد مهما كانت تسميته ولونه الديني أو الوضعي من جانب المتدينين، أو من جانب العلمانيين على السواء. إنها أزمة الشخصية المعقدة التي تتراكم في دواخلها الخلفيات والحسابات التي تربت عليها وتغذت.
علّامة سلك درب الأبواب المفتوحة على الجميع


ليس صحياً أبداً أن يرتبط الواقع الشيعي، أو السني، أو المسيحي، أو الدرزي على اختلافه بشخوص، وبذهنية التأليه لها من دون النظر في خلفياتها، ومحاسبة طروحاتها وبرامجها، وقيمها ومسالكها، فهذا خطر نحصد آثاره مستقبلاً، وتشهد تجارب التاريخ بذلك. من الضرورة التنبه للقيمين إلى مراجعة شاملة ودقيقة لكل نقاط العجز والضعف، ومحاولة التصحيح الجدي، بغية إصلاح الواقع ما أمكن من خلال التربية الفاعلة على إدارته بكل حرية وتعاون وشفافية، بعيداً عن روحية التعصب، والتنافر والإلغاء والانغلاق، حتى نحفظ كياننا كآدميين يشعرون بعزتهم وكرامتهم وإنسانيتهم.
صحيح أن المهمة شبه مستحيلة أمام استعار الأنانيات والأهواء، ولكن لا خلاص من دون مراجعات نقدية سليمة وهادفة في كل شيء.
ليس تكريم هؤلاء باحتفالات تلقى فيها بضع كلمات رسمية تنزلها من مرجعية العالمية والأنسنة إلى برودة أروقة الطقسية الرتيبة، بل بالإفادة من تجارب هؤلاء على المستوى العام، فمتى يعود زمن ولادة الكبار من الأسماء والعطاءات الأصيلة إلى ربوعنا؟

* أكاديمي وحوزوي