هناك قضية «مسكوتٌ» عنها لدى أصدقاء مارسيل خليفة، لا تُعلَن منهم ولا تتوضّح منه، ومنذ سنوات مطروحة هي: لماذا تغيّر عليهم مارسيل بهذا الشكل الجذري كفنّان كانوا جزءاً من تجربته الفنية المُحتَرَمة، وصاروا مُبعَدين أو قرّروا الابتعاد ليس عنه في الشخصي فقط، بل حتى في الفني؟ قضية تُضاف إليها قضية أخرى من المناخ عينه هي: لماذا تحوّل مارسيل بإنتاجه الفني من فنان جمهوره كبير وواسع إلى فنّان تململَ جمهوره «القديم» بدلاً من أن يترسّخ، وتراجع اهتمام الشباب بإنتاجه عوَضَ أن يتصاعد؟تقول دراسة لبعض علماء النفس صدرت قبل عشر سنوات (في الولايات المتحدة الأميركية) وهُم منَ الذين تعاطوا مع نجوم الفن في العالم (لا العالم العربي!) واستمعوا إلى خلاصات أفكارهم وسلوكهم ومواقفهم إن نجوم الفن، الكبار والأكثر شهرة ونشاطاً وارتباطاً بالعمل، تصبحُ ذاكرتهم بطابقين: «طابق» مرحلة البدايات، و«طابق» مرحلة تَحقُّق النجومية. وكلما قويَت النجومية، تحرّك «طابقُها» بشكل مضاد لطابق مرحلة البدايات محاولاً «قتْلَهُ» لأسباب شتى سيجري تحديدها هنا!
لا بدّ من مرحلة البدايات في حياة كل فنان. فيها يحاول كل شيء في سبيل إثبات الوجود. يتلمّس الطريق عبر منافذ تناسبُه للانطلاق. يقصد هذا وذاك من أجل نِتاج جيّد يُعبّر عن نفسه التوّاقة إلى الاحتراف، ويطرق أبواب أشخاص وشركات ومؤسسات، والهدف أعمالٌ تحظى بإعجاب أوسع فئات من الجمهور. وهذه المرحلة قد تطول أو تقصُر حسَب كل فنانٍ وحضورِه وذكائه وحظّهِ في أن يكون مقبولاً ومحبوباً. أما تعاملُه الشخصي مع الجميع، فيكون بسيطاً اندفاعيّاً يُنشدُ الاستحسانَ لدى كل من يراه أو يحاوره أو يتعاوَن معه. تمتد هذه المرحلة سنوات قليلة إذا كان التجاوب الشعبي معه حيوياً، ثمّ تتطوّر الأمور بسرعة بعد ذلك لتصبح وتيرة الصعود أشدّ وأمتن عبر أعمال ناجحة، وردود أفعال إيجابية وإعلامٍ مؤاتٍ لا يواكب فقط بل يتجاوز ذلك أحياناً باتجاه فرض هذا الفنان حقيقة واقعة لا تُغيَّب!
وتجيء لدى الفنان الناجح، مرحلة النجومية. بعدما كان يتقرّب من كل مَن يعتقد أنه مفيد لهُ ومساعد ويضيف لِبنةً إلى مشروعه، يصبحُ، بناءً على اسمه وشُهرته وحب الجمهور لهُ، يتوقّع مِن الآخرين أن يتقرّبوا منه، وأن يعرضوا عليه أفكاراً تشاركية في الإنتاج الفني. فإذا كان مغنياً يبحث عن النصوص والألحان لدى شعراء وملحنين عِدّة محاولاً استمالتَهم إليه، يصير أقلّ حماسةً في البحث منتظراً منهم أن يبادروا هُم نحوه بما عندهم، وتروح شركات الإنتاج تقصده للعمل معاً. هنا تكون النجومية قد تحققت لدى الفنان على مستويين: مستوى النتاج الفني ومستوى الجمهور. ومن الطبيعي عندها أن تكون «أنا» الفنان قد رَكّبت عناصرها، وأخذَت في الاكتمال في حدود طبيعية. وحتى الآن، لا طلاق بين «الطابق» الأول و«الطابق» الثاني، فالطلاق سيحدُث حين تتحوّل «الأنا» الفنية والشخصية، إلى تكبير حالها، وتضخيم نشاطاتها ومعاني تلك النشاطات، وتعظيم التجاوب الجماهيري أضعافاً مضاعفة، وينتقل التعامل مع الفنان من المناداة باسمه إلى اعتماد لقب الأستاذ، ومن التصرّف بحرية وراحة معه إلى التأني والانتباه. والفنان في هذا الوقت يراقب توسّع دائرة احترامه وتقديره والإعجاب الوافر به.
وبما أنه من الصعب على النجم أن يميز بين كلام المحبة الذي يتلقّاه، وكلام التملّق في هذه المرحلة فيحسبه محبةً كله، كما يصعب عليه ألا ينقاد إلى التعاطي الجديد معه الذي ينعش صدره وخَياله فيستسلم لهُ معتبراً أنه هو الطبيعي، هنا يبدأ الخلل الخطير الذي تسعى فيه ذاكرة النجومية إلى محو ذاكرة البداية... ولكن كيف؟
تقول دراسة علْم النفس إن أغلب (لا كلّ) النجوم، ينقلبون على ماضيهم بشكل تدريجي بطيء قبل أن يصبح الانقلاب عدائياً، فيحاولون نسيان كل الأشخاص الذين مدّوا لهم يد المساعدة لأنهم يذكّرُونهم بأيام كانوا فيها ضعافاً يتوسّلون أو يسعَون إلى الدعم، بينما هم اليوم محاطون بمن يقدّمون الخدمات لهم مع الشكر، ويعيدون إلى أذهانهم مَشاهد الانطلاق التي تحفل دائماً بالمعوقات والصعوبة في وقتٍ غادروا هُم تلك المساحة وباتوا حول «القمة» أو عليها، يخامرهم شعور كاذب وواهم بأنهم ما كانوا يوماً في حاجة إلى أحد!
تجربة فنية ساعد الحزب الشيوعي والمقاومة الفلسطينية في إنعاشها المستمر في بدايتها


هنا يكون «الطابق» الثاني الذي هو ذاكرة النجومية بدأ يطغى على «الطابق» الأول الذي هو ذاكرة البداية، ويَعتبر بعض النجوم أن هذا حقّهم في أن يعيشوا حياتهم الجديدة من دون صُوَر الماضي التي تنغّص عليهم الاستمتاع بالحفاوة والاهتمام العام الذي حلّ محلّ التعب والصبر الجميل وربما محلّ الفقر وتواضُع الحال الذي كان أحد عوامل الواقع المُسنّن بالخيبات أمامهم، وتدني المقومات الذي لازمَهم طويلاً وتأملوا كثيراً في الخلاص منه ذات يوم. وما دام هذا اليوم قد جاء، فأهلاً به وبأفكاره وسلوكيّاته ولو أدّى إلى بَتْر الذاكرة، وعيش النجم بذاكرة «واحدة» هي المولود الجديد الذي يفرض شروطه وخصائصه ومواضيعه ووقائعه.
تختم الدراسة النفسية بالإشارة إلى أن قلة من النجوم، قلّة فقط، هي التي تحافظ على «الذاكرتين» في ذاكرة ثابتة واحدة، وهؤلاء يزداد إعجابُهم واهتمامُهم وذِكْرهم للشخصيّات والشركات والمؤسسات التي ساعدت في انطلاقتهم، ويستعيدون أسماء الجميع عندما تدعو حاجة الاعتراف، لا بل يبالغون أحياناً في شُكرهم كي يُظهروا ما هم عليه من الذوق والعرفان والسلام الداخلي تجاه الأيادي البيضاء التي رعتهم وكبّرتهم وأسّست لوجودهم.
نعود إلى مارسيل خليفة الذي أصبح رمزاً فنياً وموسيقياً عالياً ولم يأتِ من فراغ، إنما من موهبة وذكاء خارق في اختيار نصوصه الغنائية لكبار الشعراء، ووضْعِ ألحانٍ ملائمة لها تتقن تبيان المعاني والحالات الإنسانية، ويطلقها خليفة بصوته المعبّر والمؤثر. أغنيات بعضها أصبح خالداً في المكتبة الغنائية العربية الخاصة بالوطنية والدفاع عن الإنسان وقضايا الأمة في مواجهة الاحتلال والظلم والاستهانة بحقوق المظلومين. تجربة غنائية موسيقية ساعد الحزب الشيوعي والمقاومة الفلسطينية في إنعاشها المستمر في بدايتها، ثم أكمل خليفة بها مستمدّاً هموم الناس كخزان أفكار وذهبَ منها إلى الموسيقى الخالصة التي لا تعتمد على نصوص شعرية، وتابَعَ في هذا الأسلوب الغني، بين الأغنية والموسيقى حتى أصبحت حفلاته في العالم العربي والغرب مقصد الذوّاقة والمحتاجين إلى من يرفع صوتهم من خلال صوته، وينقل تطلّعاتهم إلى الفن الجميل على أجنحة الإتقان والمتعة.
في أوائل التسعينيات، كان مارسيل خليفة قد أصبح نجماً فنياً على مستوى العالم العربي، وبعض البلدان التي كانت غير متشجعة له تخلّت عن ترددها واستقبلته مقدَّراً. ومنذ ذلك الوقت هو في طليعة فناني النوع الفني الذي يقدمه، ورمز من رموز الغناء الوطني عابر الحدود.
طبعاً لا يستطيع الفنان أن يقف على خاطر جمهوره في كل عمل فني جديد، فالجمهور غالباً يحبّ في الفنان الوجهَ الذي اعتاده منه، وأي تغيير سوف يربكه، والفنان معرّض لأن يُبدّل في مشروعه طلباً للاستمرارية التي يجدُها ضرورية، وأصلاً لا يستطيع أحدٌ ولا جهة ولا قوّة أن تمنع فناناً من استخدام كل طاقاته غير المعروفة للجمهور، في عملية تقدُّمهِ. لكنّ أي تغيير لا ينبغي أن يتطاوَل على ذاته «الأُولى» التي صنعتهُ وحققت تطلعاته، وفي أعمال شكلت قاعدة صلبة له. وعندما رفض الشاعر محمود درويش قراءة قصيدة «سجّل أنا عربي» أمام جمهور بالمئات طالَبَه بها، كان مخطئاً، فهو إذا كان تجاوزَها شعريّاً وإبداعياً فإن جمهوره لا يزال يقدّرها ويعتبرها مُعبّرةً عن اللحظة الحاضرة كما السابقة، فالأفضل كان أن يقرأها احتراماً للجمهور ثم ينتقل منها إلى جديده، فقصيدة واحدة أو اثنتان من البدايات في أمسية، بناء على طلب الجمهور، ليست كارثة معنوية بل خيطٌ يصل الماضي بالحاضر، لا أكثر. من هنا نسمع لدى كثيرين أن مارسيل اقتلَع أياماً سابقة من حياته، وحالات سابقة فنياً، وغادَرَها ويريد أن يواكبه الجمهور، والجمهور لا يواكب إلّا ما يعجبه ويأنس إليه! وتالياً سؤال: هل أخلى جمهور مارسيل خليفة المعروف والمُترَاكم سنوات طوالاً، الساحة لجمهور نخبوي كان هدفاً كامناً دائماً في عقل خليفة؟ وهل رفضُه السماح بأداء النشيد الوطني اللبناني قبل سنوات في مهرجانات بعلبك، يشير إلى إشكالية في طريقة تعبيره عن الرفض. إذ إن النشيد الوطني هو للوطن والمواطنين والدولة اللبنانية ولا دخْل له بالسياسة والفاسدين وأمراض السياسيين التي يرفضها الوطن والمواطنون والدولة! وما هو سرّ الجفاء الذي قام بينه وبين أشخاص كثُر من اللبنانيين الذين (من الشيوعيين الملاصقين لتجربته) وقفوا إلى جانبه، ورفعوا رايته وعملوا على تأمين كل ما يلزم لينطلق ويتابع ويثبت؟وما هو سرّ القطيعة التي تفجّرت بينه وبين عدد من الشعراء اللبنانيين الذين لجأ إلى قصائدهم ليطرح بلغة بليغة جراح الوطن والناس، وقدّموا له قصائدهم من دون مقابل، فلم يعد يتذكرهم بالاستفسار عنهم أو بمحاولة رد جميلهم بعدما بات قادراً على رد الجميل. لعل رواية سداد ثمن قصائد الشاعرين حسن العبدالله ومحمد العبدالله قبل وفاتهما بأشهُر وكيفية حصولها، كافية لأكثر من عتب واستهجان!
ما هو سرّ تجاهل مارسيل أكثر الإعلاميين في الصحافة والإذاعات الذين كانوا يندفعون إلى تغطية حفلاته إما على الورق أو عبر الأثير، وكانوا يحتفلون بكل جديد لهُ كأنه لهم، وإذا كان هو قد نسيهم كلهم، فإنّ أغلبهم ما زال يتذكر ما فعلوه كرمى لعيون مارسيل وغنائه وفنه. وما هو سرّ ضمور جمهور مارسيل بحيث لم يعد هناك من يتقصّى عن إنتاجه، ويدافع عنه ويترقب حفلاته كما كان يجري في الماضي، بالطريقة الماضية نفسها؟ هل تنوّع أعماله واتجاهه إلى الموسيقى أكثر قَد فضّ جمهور الأغنية من حوله؟ وهل لـ «الربيع العربي» المدمّر في أكثر من بلد عربي، يدٌ في إجباره على اتخاذ موقف ككل المثقفين الذين وجدوا أنفسَهم، في النهاية، إمّا مُدافعين عن داعشية معارضاتية أو مُدافعين عن أنظمة لا تعرفُ رَبّاً. وفي الحالين دخلَت ثقافتهم في عمى اللحظة السياسية، وعمى المستقبل، وهي تدرك عمقَ التعمية على الإنسان العربي للحؤول دون تحديد خياراته الجدية التحررية التي تصنع النهضة وتكوِّنُ الربيع الذي لا يكتفي بأطياف سنونو... وجهُها الحقيقي غربانٌ! أم أن مارسيل اليوم بالفعل لا بالوصف فقط غير مارسيل العتيق، وجمهوره مختلِف وأعماله مختلفة وأهدافه مختلفة، وتالياً فإنّ ذاكرة النجومية عنده هدمَت ذاكرة البدايات؟ أسئلة ينبغي أن يجيب عنها مارسيل نفسه بعيداً عن النبرة الطوباوية التي احتلّت طريقة كلامه منذ سنوات عدّة، وقريباً من ذلك الشخص المتواضِع العفوي نَصّاً وروحاً والممتلئ حباً الذي كان!