«الشعر والبحث كانا ملازمين لي دائماً» هكذا قالت الشاعرة والناقدة والمترجمة سلمى الخضراء الجيوسي (1926 - 20 نيسان/أبريل 2023) في أحد حواراتها، كأنها تؤكد أنّ البحث والشعر طريقان في مشروع حياتها الشامل، فهي مؤرخة وناقدة للحداثة العربية، حررت عشرات الموسوعات والدراسات بالإنكليزية لتعريف العالم الغربي بكنوز الأدب العربي والحضارة العربية، وقد كان لولادتها وسيرة حياتها أثر كبير على خياراتها في الحياة واتجاهاتها الفكرية والشعرية والحداثية. كما شكّلت النكبة والأحداث التاريخية ثقافتها وخطابها ووعيها الوطني، والنسوي على حد سواء، تماماً كما قالت في إحدى قصائدها: «بنيت لنفسي طموحاً وصغت لقلبي عرشاً ولوّنته من شعاع الأصيل».ولدت سلمى من أب فلسطيني وأم لبنانية في نهاية العشرينيات، في مدينة السلط الأردنية. كان والدها صبحي الخضراء سياسياً ومحامياً مهمّاً، وأمها مثقفة وقارئة نهمة. عاشت طفولتها في عكا في أجواء سياسية مضطربة في فترة الثلاثينيات، أثناء الانتداب البريطاني، فشاركت في التظاهرات القائمة آنذاك، وكتبت قصيدتها الأولى، وهي في العاشرة من عمرها. أرسلها والداها إلى القدس للدراسة في «كلية شميت للبنات»، فاجتازت المرحلة الثانوية بتفوّق، والتحقت بعدها بـ «الجامعة الأميركية في بيروت» لدراسة الأدبين العربي والإنكليزي، فتزوجت من زميل لها في الجامعة وتنقّلت بين الكثير من البلدان بحُكم عمله الديبلوماسي. في بغداد، استطاعت الجيوسي أن تنخرط في المشهد الأدبي، وقد أصدرت ديوانها الأول هناك: «العودة من النبع الحالم» (دار الآداب) عام 1960. في بيروت، انخرطت سلمى في أجواء مجلة «شعر»، وأماسي يوم الخميس فيها والتقت بشعراء مهمين أمثال يوسف الخال وأنسي الحاج، وخاضت معهم حوارات أثرت بها وجعلتها في قلب الحداثة الشعرية والأدبية. ترك ذلك أثره العميق على وعيها الثقافي والشعري. مع ذلك، بقيت تهتم بالتراث وتوليه اهتماماً خاصاً. وقد انتقدت الشاعرة المجلة في ما بعد في كتابها، خصوصاً حماسة محرريها على ترجمة شعراء على حساب شعراء آخرين، وانتقدت في حواراتها أيضاً مع يوسف الخال ذلك الإصرار على الهدم، بينما كانت تفكر في البناء واحترام التراث على الرغم من إعجابها بفكرة الحداثة والتجديد والمعاصرة. فالحداثة بالنسبة إليها هي الانفتاح على كل جديد مع احترام التراث العربي.
درست سلمى في ما بعد في لندن، ونالت شهادة الدكتوراه عام 1970 عن أطروحتها حول: «الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث» (ترجم إلى العربية عن «مركز دراسات الوحدة العربية» ــــ 2001 ـــــ ترجمة عبد الواحد لؤلؤة). كان السبب وراء اختيارها للشعر كمحور لدراستها هو الحاجة إلى رسم خريطة لما يجري من تجارب في الصورة والوزن، ولأنّ الشعر كان هو الأعلى والأهم في سبعينيات القرن الماضي.
درست في جامعات كثيرة حول العالم من الخرطوم إلى الجزائر وقسنطينة والولايات المتحدة الأميركية. وفي ما بعد، تركت التدريس وبدأت مشروعها الهام في ترجمة الشعر العربي إلى الإنكليزية، وهي أول موسوعة للشعر الحديث وقد تطلبت سبع سنوات من العمل، وتضمنت حوالى 93 شاعراً عربياً، ثم أطلقت مشروع «بروتا»، الذي هدف إلى تصحيح المفاهيم الخاطئة لدى الغرب عن الحضارة العربية. وأصدرت ضمن المشروع قرابة أربعين مؤلفاً في الدراسة والترجمة. وفي عام 1985، كلفتها الأكاديمية السويدية بإعداد دراسة عن وضع الأدب العربي الراهن في تقييم عدد من الكتاب العرب المرشحين لجائزة «نوبل»، وقد كان لتلك الدراسة أثرها الكبير على حصول نجيب محفوظ على جائزة «نوبل». وفي عام 1995، عادت إلى عكا والقدس بعد غياب استمر لأكثر من خمسين عاماً.
لقد فهم الغرب سلمى الجيوسي، وقدّرها، وفتح لها جامعاته بينما سوء التقدير المحلي والرسمي، جعلها أيقونةً عالميةً وليست محلية، على الرغم من اهتمامها الكبير والنقدي في تقديم الإبداع العربي إلى العالم. تقول سلمى الجيوسي عن اهتمامها بالإبداع العربي: «إن قدمت شيئاً ذا قيمة، فالعالم سيقبله من دون تعقيد، ومنذ بدأت عملي على هذا المشروع لقيت إيجابيات في الغرب أكثر وأكبر مما لقيته في العالم الذي أحبّه وأخدمه بكل قوتي. الغربيون فهموا جوهر عملنا وأقبلت دور النشر العالمية على ترجمة أعمالنا، ثم إني عملت مع أرقى الشعراء الغربيين وأشركناهم في ترجماتنا الشعرية. العرب لم يدركوا أهمية التداخل الثقافي والحضاري المبني على أسس مدروسة، تفهم عقل المخاطبين وتتسلح بأدوات العمل الجاد المتقن، ومع أن بعض الدول العربية اهتمت بموضوع الترجمة، إلا أنها لا ترسم مخططاً واسعاً لإضاءة جوهر الحضارة العربية».
في شعرها، يبرز صوت المرأة المتفرد الذي يحاول أن ينقذ قلب إنسانة صادقة في عالم يملؤه الخراب والاحتلال والموت. وفي مجموعتها الشعرية «العودة من النبع الحالم» التي تحفر داخل الوجود الإنساني العميق، يظهر ذلك الألم العميق بالهزيمة والشتات والقلق والبحث عن خلاص. لم تنشر بعدها مجموعات أخرى سوى قصائد متفرقة ونشرتها عام 2021 تحت عنوان «صفونا مع الدهر» عن «دار الأهلية» في عمان.
في مجموعتها الشعرية الأولى، يظهر ذلك الألم العميق بالهزيمة والشتات والقلق والبحث عن خلاص


الملفت أيضاً أن هناك وعياً نسوياً عميقاً في شعرها ونقدها. كانت تكتب عن المرأة كثيراً شعراً ونقداً، تقول في إحدى قصائدها عن المرأة: «المرأة هي /سين/ سين المجذوبة إلى السماء السابعة؟ / العائمة بين النجوم؟ / الموزعة أبداً بين الولد والوالد؟»
وفي كتابها المهم «الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث»، كتبت عن تجربة الكثير من الشعراء والشاعرات ومنهم نازك الملائكة التي كتبت عنها بدقة وموضوعية وأرخت لدورها الإبداعي والنقدي الكبير وعن قصائدها المهمة وعن الإهمال النقدي لها، وأعطتها مكانتها الرائدة في تطور الشعر العربي الحديث، وقد اعتبرتها اللولب الأول للثورة الشعرية لقصيدة النثر بمشاركة الشاعر بدر شاكر السيّاب. وكانت قد أشارت إلى أنّ الملائكة قد أخطأت حين تجاهلت ما قدمه قبلها علي أحمد باكير الحضرمي وفؤاد الخشن، لكن هي التي نقدتها ورسختها.
وفي موسوعتها عن الشعر الحديث الصادرة بالإنكليزية، تكتب في المقدمة عن أسباب اختيارها وتقديمها للشعر العربي الحديث، فتشرح أن اهتمامها الأول انصب على التطور الداخلي للفن الشعري. تطوّر حددت معالمه بالدرجة الأولى عناصر من طبيعة الشعر نفسه. وتتحدث في مقدمتها عن ارتباط الكاتب الفلسطيني بالسياسة وخصوصية هذا الأدب وأهميته بالنسبة إلى الأدب العربي عامة. وتشير إلى أنّ هناك ظاهرة ثابتة وجديرة بالملاحظة أن أصحاب المواهب من الفلسطينيين عاشوا ودرسوا خارج فلسطين واتصلوا بالحياة العربية المزدهرة آنذاك.
وفي دراسة أخرى للناقدة مهمة بعنوان «البطل في الأدب العربي المعاصر»، تطرح ذلك السؤال المهم: «لماذا نتحدث عن الأدب العربي عامة ولا نكتفي بالتخصيص؟ فنتحدث عن الأدب المحلي في كل دولة عربية؟ وتضيف: «بالنسبة إلى الأدب، يمكننا القول بأنّ الأدب العربي الطليعي تعبير عام عن رؤيا الإنسان المعاصر في العالم العربي وهو موحد في الاتجاهات التي يعكسها».
رحلت الشاعرة والناقدة الفلسطينية العربية وهي تحمل معها كل انشغالاتها وهمومها الشعرية والفكرية والنقدية التي تحمل رؤيا عالم عربي وإنساني حضاري. كانت تحلم بمشروع ثقافي نقدي شامل وموحد وواسع، برؤى نقدية جريئة، يعطي أهمية لذلك الهامش، كما قالت في قصيدة لها: «ليعلم شعبي أن في أعماق ديجوره ألوف الشموس/ ستهتك ستر الظلام العبوس/ وتفتق سداً منبع الحواجز من سوره/ ليدفق عمر الضياء العظيم على الجانبين».