«ألفين سنة ويفضل كلامي جميل»
«أنا الأديب وأبو الأدباء اسمي بإذن الله خالد وشعري مفرود الرقبة زي الألف ورقم واحد»
يعرف فؤاد حداد قيمته الشعرية، فهو والد شعر العامية. وإذا كان لبيرم التونسي الفضل في خروج شعر العامية من فكرة الزجل، فلحدّاد الفضل في أي شعر عامية حتى وقتنا الراهن وإلى ما لا نهاية. لا يمكن أن تكون شاعر عامية من دون المرور على تجربة فؤاد حداد. وكما قال صلاح جاهين في أحد حواراته «فؤاد حداد اللي نوّر السكة قدامي وبيّن إن شعر العامية يمكن أن يكون في مستوى الأشعار العالمية».
ولد حداد في 30 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1930 في حي الظاهر في القاهرة. والده سليم أمين حداد من بلدة عبيّه (قضاء عاليه ـــ لبنان)، تخرّج من «الجامعة الأميركية» في بيروت وجاء إلى القاهرة ليعمل مدرساً في كلية التجارة في «جامعة فؤاد الأول» وحصل على لقب البكوية، وكان صاحب العضوية رقم واحد في نقابة التجاريين. أمّا والدته، فهي من مواليد القاهرة جاء أجدادها السوريون إلى مصر واستقروا فيها، وتأثر فؤاد كثيراً بأمه.
«أبوي سليم ندى عينيا
معلمني معلمني
مفيش أجمل من الميه
ولا عمارة بعشرة ادوار
وانا معلم كمان ابني
يا ميت بوسه على التعليم
وميت بوسه على الفلة
وانا باشرب من القلة
وكان وشّه قمر نوّار
يا ميت بوسه لابوي سليم
الميه للعطشان» (ديوان «التسالي»)
ولد فؤاد حداد واسع العينين، ينظر إلى كلّ شيء باستغراب. لم ينطق بأيّ كلمة حتى بلغ ثلاث سنوات. قال عن نفسه في قصيدة «أطيب من شراب الورد»: «كنت طفل عيوني أوسع من هدوم العيد وأطيب من شراب الورد يمكن كنت شعلة من الذكاء». درس حداد في «مدرسة الفرير» ثم «الليسيه» في باب اللوق بعدما انتقلت العائلة في بداية الأربعينيات إلى منطقة وسط البلد.
عوالم كثيرة غرف منها حداد: رحلاته إلى لبنان مع أهله والتعرّف إلى الأدب والزجل اللبنانيين، صوت القرآن في البيت، وتعلّمه اللغة والخط العربيين، وإتقانه اللغة الفرنسية من المدرسة والبيت، ما أتاح له فرصة التعرف إلى الشعراء الفرنسيين. كان يحبّ أراغون على وجه الخصوص، كما الشعر والأدب العربيين. قراءاته امتدّت من المتنبي وحتى بيرم التونسي، ومن التاريخ الإسلامي والعربي إلى تاريخ العالم والثورات. كل ذلك جاء مع بداية اهتمامه بالسياسة وانضمامه إلى المنظمة الشيوعية المصرية: «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني/ حدتو» قبل ثورة يوليو. حين قامت الثورة، أصدر ديوانه الأول «أحرار وراء القضبان» بعد رفض دار النشر العنوان الأصلي له («أفرجوا عن المسجونين السياسيين») لتبدأ رحلة فؤاد حداد مع الشعر والسجن.
«أنا مصري من أصل شامي
لا يغتفر احتشامي
ح ينطلق من حيشاني
صوت الجموع المفرد
أنا مصري من أصل شامي
لكني لم استورد
ولا أُباع إلا بالعملة المحلية» (قصيدة «حنان جمهوري»)
كان يحلم أن يحرّر العالم بالسيف، لكنه اكتشف استحالة ذلك، فقرر مواجهة العالم بالقلم والشعر. اختار كل شيء في حياته بنفسه: اختار مصر بلده على لبنان، والإسلام على المسيحية، واللغة العربية على الفرنسية، الشيوعية والاهتمام بالجموع والشعب، وهو ابن الطبقة البرجوازية. أدرك أنّه يجب أن يكون واحداً من جموع الشعب كي يصل شعره إليهم، فهو الآن مسلم شيوعي فقير ينادي بالحرية للجميع.
«حش حملتيني تسعة أشهر ضنا
وحملتيني تسعة أشهر آمال
احمليني وأنا في العشرين سنة
وخطوط الدم من صدري طوال»
(قصيدة «الشهيد الإيراني»)
كان لحداد تجربتان في المعتقل، الأولى عام 1953 وحتى 1956، واعتقل مرة ثانية عام 1959 وحتى 1964 أمضاها في «سجن الواحات». وسط ضجيج التعذيب والعمل في الزراعة في مرحلة السجن الثانية، كانت هناك أيضاً حالة من الوهج الثقافي والنضالي ما بين الغناء وحفلات السمر والمسرحيات والمجلات المكتوبة والمسموعة، والتقائه بجميع أطياف الشعب ومن كل القرى والبلاد والنجوع. بالطبع، ترك كل ذلك تأثيراً واضحاً على شعر حداد. لكن الأهم في تلك التجربة مواجهة حداد للصمت وما حوله من كائنات حية وجماد أيضاً. محاولات الخروج من حيز الأشعار المباشرة السياسية والخطابية إلى الشعر الخالص، تلك هي المرحلة الأهم في تجربة أي شاعر. الكتابة عن الحيوانات في ديوان «رقص ومغنى»، أو تجربة ديوان «التسالي بالمزاج والقهر». كل تلك التجارب حرّرت شعر فؤاد حداد أكثر، وجعلته قادراً على التأمل في تفاصيل الحياة المملّة والكتابة عنها ومزجها بالأمور التاريخية والسياسية والاجتماعية. تلك اللحظة هي التي حرّرت القصيدة العامية، وجعلت فؤاد حداد شاعراً استثنائياً بكل المقاييس، حتى إنه قال في قصيدة له «الشكر للي سجنوني وبنيل وطمي عجنوني».
خلي بالْك معاي ما تسوقش الهبل
بهلوانْ؟ مش بهلوانْ، فار؟ أيوه فار
واللبن فار
وكان زمانْ الجمل له في الحبل
وتمخض الجبل
فولدني!
حد قال يا فار انت طالع منينْ؟
يا فار أبوك الجبل ثابت وجبت منينْ الوسوسه.
بعد الخروج من المعتقل، بدأ حداد تجارب جديدة مثل تجربة «المسحراتي» مع الملحّن والمطرب سيد مكاوي (1928 ــــ 1997)، التي رشحه لها صلاح جاهين. أحب حداد فكرة كتابة «المسحراتي» والخروج عن إطار فكرة المسحراتي الدينية، والغوص في مشكلات اجتماعية وسياسية وعربية، ثم كتابة «من نور الخيال ووحي الأجيال في تاريخ القاهرة» (جاء الديوان رداً على النكسة) أيضاً مع سيد مكاوي. لم يكترث حداد بالظهور في الإعلام والميديا، حتى عند ظهوره كضيف يقدمه صلاح جاهين في حلقة من برنامج «أهلاً وسهلاً»، كان يجلس خجولاً لا ينظر إلى الكاميرا. تشعر أنه يريد الهرب سريعاً من كل تلك الأضواء والثناء على شعره وشخصه.
عوالم كثيرة غرف منها: رحلاته إلى لبنان والتعرّف إلى الأدب والزجل، صوت القرآن في البيت، وإتقانه اللغة الفرنسية


أسهم فؤاد أيضاً في الأغنية المصرية، رغم قلة ما تم غناؤه من قبل سيد مكاوي، ومحمد حمام، ومحمد منير، وأحمد إسماعيل، ووجيه عزيز، وسيمون ومحمود الجندي وغيرهم. إلا أنّ شعر حداد يصلح للغناء بكل سهولة. يمكنك أن تفتح أي صفحة عشوائية في أي ديوان له، ستجد مقطعاً قابلاً للتلحين والغناء، وتلك واحدة من ميزات حداد وعبقريته وصعوبته في القراءة. إن لم تجد الإيقاع الموسيقي للقصيدة، ستجد صعوبة بالغة في قراءته وفهمه.
اهتم حداد بالقضية الفلسطينية وقضية العروبة بشكل كبير، وتأثر كثيراً بالنكسة، فكتب على أثرها قصيدة «الأرض بتتكلم عربي»، تلك الجملة التي خطرت على ذهنه لحظة معرفة خبر الهزيمة عام 1967. كتب حداد الكثير من القصائد والدواوين عن فلسطين والمقاومة. وكانت المقاومة فعلاً يبحث دائماً عن أثره في جميع الحضارات والثورات والنضال. ترجم حداد العديد من الدواوين والقصائد، وكانت الترجمة مصدر رزقه الأول في الحياة وليس شعره هو.
«عاوز ألحق قبل ما أموت»، كانت تلك جملته بعدما أصيب بجلطة في القلب عام 1977. ترافق ذلك مع جفاف شعري حتى عام 1979، ليعود ويكتب بشغف وقوة مضاعفة. كتب ثلثي أعماله في تلك الفترة حتى رحيله في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) 1985. مات حداد ولم ينشر نصف أعماله تقريباً، رغم أنّه كتب ما يقرب من 35 ديواناً نُشر منها 17 فقط أثناء حياته.



قصيدة بلغات العالم
أعلن «المركز القومي للترجمة» المصري عن مسابقة لترجمة قصيدة فؤاد حداد «ماورد وجنة» من اللغة العربية إلى كل لغات العالم.
وقالت رئيسة المركز كرمة سامي، إنّ هذه المسابقة تأتي ضمن احتفالات وزارة الثقافة باختيار مدينة القاهرة عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 2022 واحتفالاً بذكرى مولد الشاعر، موضحة أنه تم التنسيق مع «الهيئة المصرية العامة للكتاب» كونها مالكة حقوق نشر الديوان، لترجمة القصيدة إلى كل اللغات ونشرها. ويستمر «القومي للترجمة» في تلقي ترجمات القصيدة ([email protected]) حتى نهاية الشهر الجاري.
قصيدة «ماورد وجنة» هي القصيدة التي يستهلّ بها حداد ديوانه «من نور الخيال وصنع الأجيال في تاريخ القاهرة» التي يستحضر فيها روح العاصمة صاحبة الألف عام، إذ تقول أبياتها الأولى: «يا سامعين أبناء بلد واحدة... تحت السما الواحده وجيل بعد جيل... القاهرة قالت وقولها الحق... أشهد بأنك يا ابن آدم جميل». وعن اختيار تلك القصيدة بالتحديد لمسابقة الترجمة، قالت سامي بأنّها تعبّر بشكل واضح ومكثف عن القيمة التاريخية للقاهرة، كما تحتفي بشاعر كان صاحب أثر عظيم في مسيرة الثقافة المصرية والعربية بشكل عام.