لم يقفز رضا كبريت (1930 – 2022) إلى واجهة الرواد النجوم في المسرح اللبناني الحديث على الرغم من مجايلته لتلك الثّلة المسرحية الشهيرة المعروفة لبنانياً وعربياً كنضال الأشقر ومنير أبو دبس وروجيه عساف وشوشو والأخوين رحباني وغيرهم. هذا على الرغم من تألقه الكبير كواضعٍ مسرحيّ أصيل للنصوص المحلية تأليفاً وإعداداً، فضلاً عن أدائه كمُمثّل جيد ومُتمكّن في العديد من الأعمال على الخشبة، وحتى دخوله أيضاً ساحة الإخراج بأكثر من تجربة ناجحة. بهذا المستوى حفرَتْ المسرحيات التي لعبها كبريت في أسُس العلاقات السياسية/ الاجتماعية بين المواطن والسلطة ونقدَتْ بدلالاتها العميقة الصيغةَ المحلية لدورة الحكم بممكناته الطائفية وتحالفه الكبير مع كبار التجار ورجال الاقطاع والدين، ممّا كرّس روح مصلحة البقاء في السلطة وتوريثها، لا تداولِها كما يجب ويُفترَض، وبأشكالٍ مختلفة فاسدة ومُفسِدة في وقت مبكر من تاريخنا السياسي. وُلِدَ رضا محمد كبريت في صيدا ونشأ فيها، حيث أثّرت فيه مشهديات فنّ الكراكوز بدُماها الملوّنة، وأصداء قصص الحكواتي فيها فعلاً وتفاعلاً، ما ساهم في بلورة كينونته كشخصية فنية منذ الصِّغر وإلى ما بعد ارتحاله إلى مدينة بيروت في أربعينيات القرن الماضي، مُريداً شغوفاً لتلك الفنون في شوارع الخندق الغميق والبسطة والمعرض وغيرها، ومُقرّاً بأنها في صيدا أهمّ منها في بيروت لِما كان فيها من تركيزٍ على السَّمعي وإِعمال الذّهن أكثر من البصري. لم يكن مسرح فاروق البيروتي أقلّ أهمية وجدوى عمّا سبقه من مجالات فنية مؤثرة لدى كبريت، فكان يتردد إليه ويتابع عروضه حتى مطلع الخمسينيات حيث بدأ ممارسة «أبي الفنون» بالتوازي مع انتسابه الحزبي، منطلقاً من ضرورة ترجمةِ أفكاره القومية السورية الاجتماعية على الخشبة بشكلٍ أو بآخر، في قضايا وطنية محورية تشدُّ الجمهور. فكانت باكورة أعماله مسرحية «ليلة في المخفر» التي قدمها عام 1954 وانتهت به إلى السِّجن لما ارتأت فيها السلطات المحلية وقتذاك من تحريض على أمن الدولة. أعادَ تمثيلها أواخر الخمسينيات، فلم تعاقبه السلطة هذه المرة، ولم يعد هو إليها كأنهُ روى ظمأ قناعته بأحقية وصحة ما فعله.
في الخمسينيات أيضاً، عرضَ كبريت مسرحيات «المنبوذ» (تأليف سعيد تقي الدين) و«مجنون يحكي» و«ثورة عالرجعية»، وكلّها في بيروت، مفضّلاً اللغة المحكية في حواراتها. وكانت منطقة الخندق الغميق هي الساحات الأولى المتوافرة التي يعرض عليها أعماله، بممكنات عادية بسيطة جداً من الاضاءة والديكور ولوازم العرض. ومع مطلع الستينيات، كتبَ مسرحيته «حالة طوارىء» التي شكّلت علامةً مضيئة وفاصلة في بداياته كمُبدع محترف ترجمَتْ حسّه الوطني ووجهة نظره الوطنية في مواجهة السلطة، ورتّبَتْ له بداية حضورٍ دراميّ ناجح وملتزم ودائم على الساحة المسرحية، جعلها تلقى قبولاً كبيراً وهو يعرضها في أحياء بيروت، ثم ينتقل بها إلى المحافظات الأُخرى لا سيما في بعلبك والبقاع الغربي وحيثما وجدَ تجمعات حزبية/ شعبية وطنية، مما جعلَ مسرحَهُ جوّالاً بامتياز. لم يكن نجاح كبريت بسبب القيمة الفنية لعروضه فحسب، بل لأهمية المواضيع الوطنية الحماسية التي يطرحها ما عدّهُ كثيرون مسرحاً مُلتزماً فتحَ له الباب واسعاً لتعاون كبير ومثمر مع «محترف بيروت للمسرح» بين عامي 1968 و1973، فكانت مسرحيات «طبعة خاصة»، «المفتش العام»، «مجدلون 2»، «إضراب الحرامية»، «مرجان وياقوت»، «التفاحة»، «إزاز» وغيرها... حتى قدّم «السِّتارة» عام 1973 من تأليفه وتمثيله على مسرح «سينما أورلي» في بيروت بإخراج وتمثيل ميشال نبعة رفيقه في الحزب مع كريم أبو شقرا، فؤاد حجيج، نقولا فهد، وضاح فارس، محمد كبريت، أنطوان دانييل، وألين تابت بدورٍ نسائيّ وحيد. لم يخرج كبريت في «السّتارة» عن النقد السياسي الهازل والسّاخر بالمشاكل اللبنانية القديمة الجديدة كالطائفية والزعامات التقليدية ومصالح الفساد المشتركة للمسؤولين عطفاً على نصرته للقضية الفلسطينية، مما لا يخفى على لبيب في قسمات أعماله نصاً وعرضاً، فكان مسرحه بهذا المعنى حمّال قضايا مُتشعبة بين البساطة والتعقيد، حتى عدّته خالدة سعيدة في كتابها القيّم جداً «الحركة المسرحية في لبنان» (1960 – 1975 ) صاحبَ أول مسرح لبناني مُلتزم، فهو وقبل أي شيء رجلَ نقاباتٍ عماليٍّ مناضل ومعروف، وأحدَ مُعِدّي ومهندسي التظاهرات في الشارع من المناضلين القوميين المعروفين. كما كان وبالتوازي من مؤسّسي «الهيئة الوطنية للمسرح في لبنان» التي انبثقت عن «المؤتمر الوطني الأول للمسرح في لبنان» الذي عُقدَ في بيروت بين 10 و 12 أيلول (سبتمبر) 1971 وكان هدفه تنظيم العمل المسرحي كمهنة معنوياً ومادياً. إنّ أهم ما يمكن استحضاره في غياب رضا كبريت اليوم هو جدليةُ الالتزام والنجومية في المسرح اللبناني، وضرورة أنْ تكون الأخيرةُ دائماً الوجهَ الآخرَ المُضيء لذلك الالتزام، لا تعميةً عنه أو تهميشاً لأهمية مبادئه الحالّة في رَجُلِ المسرح فكراً ومُمارسة.

ن