رغم رحيله شاباً، ترك الشاعر أبو القاسم الشابي (1909-1934) أثراً امتد أطول بكثير من سنوات عمره الخاطفة التي عاشها بقلب مريض وحضور خافت و132 قصيدة هي كل ما كتب ونشر في مجلات أدبية تونسية ومصرية، كان أشهرها القصيدة التي لُقّب «شاعر إرادة الحياة» باسمها. الثقافة التونسية التي لطالما استعادته بأمسيات في ذكرى رحيله أو ميلاده، أعلنت بعد قرابة تسعين عاماً على وفاته عن إطلاق «مشروع نموذجي خاص بإنشاء دار الشابي»، حيث التقت وزيرة الثقافة حياة قطاط القرمازي، يوم الاربعاء، بأحفاد الشابي ورثة أرشيف الشاعر وتركته الأدبية.
ليس هذا الاحتفاء الأول من نوعه بالشابي، فهو الشاعر التونسي الذي يدرس في المناهج المدرسية وتحمل بعض المؤسسات الثقافية اسمه، وصممت الطوابع البريدية بصورته التي طبعت أيضاً على الأوراق النقدية، وتناولت مئات الدراسات الأكاديمية أشعاره. لكنها المرة الأولى التي تفكر فيها المؤسسة الرسمية بمتحف يقام في موقع بيت الشاعر في مدينة توزر، مسقط رأسه. ومن المنتظر أيضاً أن تحصل وزارة الثقافة على مخطوطات ورسائل ووثائق الشاعر من أحفاده، لتكون جزءاً من مقتنيات الدار.
درس الشابي في الجامع الأعظم أو جامع الزيتونة وسط مدينة تونس العتيقة. رغم ذلك، كان متمرداً وناقداً لجمود المؤسسة الدينية. جاءت قصائده بمثابة دعوة إلى التنوير واستنهاض الشعب لمواجهة الاستعمار الفرنسي، من ذلك قصيدته الأشهر «إرادة الحياة» التي يبدأ النشيد الوطني التونسي بمطلعها: إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر.
كان للشابي أيضاً موقفه النقدي من الثقافة العربية، وقد عبّر عنه في محاضرة ألقاها عام 1929 في «المدرسة الخلدونية» بعنوان «الخيال الشعري عند العرب»، فنقد الشاعر «الروح العربية» من خلال الشعر، والعكس بالعكس، أي أنه نقد الشعر من خلال هذه البنية أيضاً.
حاجج الشابي في المحاضرة بالقول «لا أزعم أنه (الشعر العربي) لا يلائم أذواق تلك العصور ولا أرواحها، ولكنني أقول إنه لم يعد ملائماً لروحنا الحاضرة ولمزاجنا الحالي ولآمالنا ورغائبنا في هذه الحياة». كذلك، انتقدت هذه المحاضرة موقف الشعر العربي من المرأة وبالتالي الثقافة برمتها من المرأة. إذ يمكن قراءة ما كتبه الشابي اليوم كتعريف لما بات يعرف في عصرنا بـ تشييء المرأة. كتب «وإذن فنظر الأدب العربي إلى المرأة كنظره إلى الطبيعة أو أدنى لا سموّ فيه ولا خيال، وإنما هو مادي محض لا يكاد يرى فرقاً بين المرأة والرداء». كما وصف الشابي «الروح العربية» منتقداً «خطابيتها المشتعلة » التي أضعفت في رأيه ملكة الشعر وأفقرت الثقافة العربية وانفتاحها على الثقافات الأخرى.
صدرت هذه المحاضرة في العام الذي ألقيت فيه في كتاب، رغم أن صاحبها لم يتمكن من نشر مجموعة شعرية في حياته، فهي لم تجمع وتصدر في كتاب إلا في عام 1955.
من جهة أخرى، فعندما نفكر في المتاحف المخصصة للكتاب والشعراء، يستحضر الكثير منا منازل قديمة الطراز عاش فيها أحد المؤلفين ذات يوم، حيث يتم الاحتفال به اليوم باعتباره رمزاً. فقد ركزت المتاحف المخصصة للكتاب وبشكل تقليدي على السير الذاتية لهم، ولم تربط أدبهم بالمجتمع المعاصر.
ورغم وجود توجه عالمي اليوم في متاحف الأدباء يلجأ إلى استراتيجيات تفاعلية جديدة لعرض المخطوطات بطريقة تتجنب معاملتها كأشياء رمزية أو سلع ثقافية، وتربط الكتب بحياة الزائرين الحية، فإننا ما زلنا بعيدين، عربياً، عن هذا الشكل من النشاط التفاعلي في متاحف ودور الكتًاب على قلتها.
لنأمل أن يفكر القائمون على تأسيس متحف الشابي خارج الصندوق، وأن يتصوّروا شكلًا جديداً من التفاعل مع الماضي على نحو يعيد النظر في أسئلة الشابي حول الروح العربية ومكانة المرأة ودور الشعر ومكانته في الثقافة العربية.