قد لا يعرف كثيرون أن المرجع السيد محمد حسين فضل الله شاعرٌ وأديب، فلولا ذوقه المصقول وذهنه المتوقد بلغة نابضة بالحياة، طيّعة بدفء وبيان زلال، ربما لم يحز ليونة الإجتهاد مع قوة الإقناع .أن تحاول الكتابة بسطور عن تجربة شعرية مسكونه بطباع سديدة مع جلالة المعاني، فذلك أمر مستصعب لأنك لن تحوط على ما تفجرت به القرائح في ثنايا كلمات ما لم تتعرف على الشخص بكل عصارات تجربته،كيف لا وهو مجتهد تلقف الشعر سماعًا وقراءة وهو صغير السن متقلبًا في حضن عائلة تفجر منها الشعر عذبًا رقراقا، فوالده السيد عبد الرؤوف مجتهد شاعر وعمه السيد عبد اللطيف شاعر من الطراز الرفيع ،كذلك أخوه العلامة السيد محمد جواد شاعر مُجيد.
انطلق بهمة إلى نظم الشعر مقتطفاً لحظات زمانه الداخلية في تفاعلها مع زمان خارجي مثقل بالهموم والإشكالات فكانت دواوينه الشعرية التي أخرجها في النجف ولبنان: «على شاطىء الوجدان»، «قصائد للإسلام والحياة»، «يا ظلال الإسلام»، «في دروب السبعين»، شاهداً على تلك اللحظات المتشابكة.
لديه إشارات جمالية حاكت المفهوم الشعري الكلي لوحدة الإنسان في همومه الوجودية في انسياب الفكرة واتساق الصورة وترابط التعابير والأهم التدفق الشعوري المفعم بالحياة والرشاقة المستمدة من العناصر الحسية المتوهجة القريبة التناول: «الليل والغيوم والأصيل والدجى والزورق والنجوم والضباب». ففي ديوانه «قصائد للإسلام والحياة»، نجد مقطوعات ذات جرس موسيقي متفجر أحاسيسَ ورؤى، يجمع بين ألفاظها عقد بلاغي جميل يستند إلى ذوق أدبي رقيق يستبطن قلقاً وجودياً عالياً عرف الشاعر كيف يوظّف نظمه دون تكلف:
ما حياتي هُنا.. ونحنُ على الكوْنِ ظِلالٌ ستَمَّحي وتَزُولُ
رنَّحَتْنا الغيُومُ، في هَدأةِ اللّيـلِ فماجَتْ بنا الرُّبى والسُّهولُ
ومضيْنا معَ الضَّبابِ كما يَرْتَعُ في وحْشةِ المكانِ النَّزيلُ
هكذا نحنُ، حيْرَةٌ يرْقُصُ الوَهْـمُ عليها، وتسْتطيلُ السُّدولُ
ربِّ هَبْني برْدَ اليقينِ فقلبيْ شُعْلةٌ ماجَ حوْلَهَا التَّضْليلُ
يبعثُ الشّاعرَ المُدلَّهَ صُوفيّ يناجيكَ: والنُّجومُ مُثولُ
أنا في لُجّه أطوفُ ولكن زورقي مجْهَدٌ وعبْئي ثقيلُ
أسْتَحِثُّ الفجْرَ الطَّليقَ يُغنِّي بِسَنَاهُ الضُّحَى ويزْهو الأصِيلُ
والدُّجى يصْرَعُ الحياةَ ويهْوي منْ ذُراها فيه كِيانٌ قَتيلُ
ربِّ هبني إشعاعةً تبعثُ الوَحْ ـيَ بِروحي فقد دهَاهُ المُحُولُ
الرسالية الشعرية تبرز في منحاها التصاعدي عبر تقنية تحريك الجو العام وإطلاق الشعور الخاص نحو فضاء معرفي عام يصبح ملكاً عاماً يستثير الكوامن ويرفد التأمل، فالإبداع أيضاً يكمن في إشراك العموم في التجربة الخاصة الذوقية للتدليل على توليد الرؤية الفكرية المنعتقة من المقيدات والمترفعة عن الملوثات.
شكّل الإنسان المحور في وجه كل تيارات تضييعه والمعاناة ليست إلا وقود لفرض التجذر والأصالة أمام عتو الزمن وتحدياته وليس الوزن الشعري من يحدد القيمة، بل الصورة الكلية المركبة التي يجمعها الإنسجام في خدمة المعنى العميق المقصود مع الحفاظ على ظاهر دفق الشعور.
أما ديوانه «على شاطىء الوجدان»، فيشتعل الوجدان على لهيب الشعور وحرارة البيان:
إسمَعيني.. ولا تقولي.. انطَوى الحُلمُ.. فقد فاضَ بالحياةِ.. وغنَّى
إنَّهُ عادَ.. يحملُ الرّعشةَ السَّكرى ـ بِقلبي ـ عبرَ الضُّحى ـ مُطْمئنّا
ويضمُّ الحياةَ.. في شُرفـاتِ الفَجـرِ.. قيثـارةً بـِهِ تَتَغنّى
يحضنُ الخلجةَ الخفيّةَ في روحي.. ويستلُّ خفقةَ القلبِ فنّا
إسمَعيني.. ولا تقولي.. مضى الأمسُ بما فيهِ.. وانطوى الحُلمُ.. عنّا
إنُّه عادَ.. واحتوى الزَّمنَ القاسي بكفَّيهِ فاستلانَ وحنَّا
نحنُ لا نرهبُ الدُّجى فلدينا من طيوفِ الذِّكرى هوًى رفَّ لونا
نحنُ من روعةِ الألوهةِ سرٌ لوَّنَ اللَّحنَ بالحَياةِ.. فأنّا
نتمنّى.. والنَّهرُ في سكرةِ الحُلُمِ.. يُغنّي الحقولَ.. ما نتمنّى
فاسمعيني: فقد يغصُّ بأحلامي نشيدي.. إنْ لمْ يُخَلّدْكِ لَحْنا
وتحت عنوان "الخيال الضائع" يقول:
ليتَهُ لم يَعُدْ.. فقد كانَ رفّافاً بأحلامِنا وزهوِ خطانا
كانَ يمتصُّ من كؤوسِ أمانينا.. حياةً مُخضرّةً.. برؤانا
وكأنّا.. ونحنُ نرشفُ في غيبوبةِ النّورِ.. وحينا ومنانا
ونغنّي له.. فيلتهبُ اللّحنُ.. وتضرى على صداه.. قوانا
حُلمٌ مَرَّ في الصّباحِ فلمَّا صفّقَتْ روحُهُ اطمأنَّ ولانا
إنَّ فيه مِن يقظةِ العمرِ في الفجرِ.. خيالاً مرنّحاً فنّانا
وعلى طيفِهِ.. من النَّغمِ المخمورِ.. روحيّةً تفيضُ حنانا..
لا يسعنا المقام ذكر الكثير الكثير من مقطوعات شعرية ينبجس منها نزوع روحي ومغالبة عقلية لمسيرة إنسانية تحترق شوقًا لمعايشة سكون مطمئن هجر ربوع البشر واستوطن في خيال منفصل عن واقع متصحر أراده الشعراء متناغمًا منتصرًا على التناقضات راسمًا لحلم بدنيا إنسان يمحو الغبار عن آدم ..عن النهار.
ما نرجوه الإنطلاقة نحو عمل مؤسساتي ومشروع متكامل يعنى بدراسة وحفظ كل التجارب الرائدة في عالم الشعر والأدب حيث الذاكرة تتفق وتكتمل بكل دواخلها الأصيلة التي تحكي تاريخها وتحفظ آثار صانعيها بما يخدم مسيرتها في وجه كل استلاب وضياع وانحطاط وأمام ما نسمعه ونراه من هبوط وانحدار في الفضاءات الإعلامية والثقافية وغيرها التي ابتعدت عن رساليتها النظيفة وانغمست هي الأخرى في حفلات الصخب والجنون ومزادات بيع الأنفس والمبادىء.

* أكاديمي وحوزوي