لم تكن اللّغة العربية بالنّسبة لي مادةً هامشيّة أو إحدى المواد العامّة المفروضة على طلّاب السّنوات الأولى في الجامعة على الإطلاق، بالرغم من أنَّ أيّةَ لغةٍ لاتينية الأصل، بل حتى اللّاتينية القديمة، كانت لتكونَ أكثر جدوى كمادةِ لغة في الفرع الذي أدرسه. كنت أجدني أكرّس للّغة العربية، عن كلّ طيّب خاطر، وقتاً يُعادل ذاك الذي أكرّسه للرياضيّات والفيزياء، ولربما أكثر منه بقليل، إذ كانت مناهج الرياضيات والفيزياء ترجمات عرجاء عفا عنها الزّمان عن مناهج أجنبية، وكنت أجد في تمرينات اللّغة العربية رياضةً ذهنيةً لا تقلُّ تحفيزاً فكرياً عن ذاك المرجوّ من تمرينات الفيزياء والرياضيات.
لم يكن أحدٌ من أقراني يُشاطرني هذا الانطباع، بل لعلّني كنت لأغدو محطّ سخريةٍ -وما من جديدٍ في هذا- لو شاركتُهُ أحداً منهم، أو لو شاركتهم أني أقتني كتاب المادة أصلاً!... وأني أقرأ منه!... وأني لم أنتظر حلول ليلة الامتحان لتنقر «عصفورةٌ» زجاج نافذتي جالبةً لي بعضاً من أسئلة اليوم التالي، أو ربما كلَّها، جرياً على عادةٍ لم تتكشّف لي إلا بعد أن آليتُ على نفسي حجز تذكرة مغادرةٍ، بلا عودة، من هذا الصّرح التعليمي. لذا آثرتُ أن أحتفظ بهذا السرّ لذاتي، حالُه حال غيره من أسراري الكثيرة الخاصة.
لا أذكر أني عدتُ من امتحانٍ على مدى سنوات دراستي الجامعية مرتاحةً لِما كتبت كراحتي حين عودتي من أول وآخر امتحان لغةٍ عربية لي على مقاعد الجامعة، إذ كان الامتحان الوحيد غير الخاضع لنظام التقييم الأميركي القائم على مبدأ الأسئلة ذات الإجابات المتعددة الخيارات. نعم، لم نسلم من اللّمسات الأميركية المباركة حتى في أسئلة امتحاناتنا! ويا ليت أميركا أتمّت معروفها ودرّبت متبنّي طرائقها من واضعي المناهج والأسئلة على المهارات اللازمة لذلك. لقد جرّدَنا الاتباع الأعمى للأنظمة الأميركية «المتطورة» في مختلف مناحي الحياة من الكثير الكثير، ولم يكن أعظمَه، ولن يكون آخرَه، تجريد التلميذ من «حق» التعبير على الورق، تجريده من حقّه بقدرٍ من وقت أستاذه لتقييم ما كتب، ليصبح مآل ما حصّله التلميذ من معارف وما اكتسبه من مهارات محض بياناتٍ تُلقَّم لآلةٍ كأنف أبو كلبشة، لا تخطئ، بل تملك وحدها مقاليد مصيره ومستقبله. أوليس في هذا تجريدٌ من الإنسانية ضمن الإطار الإبداعيّ للكلمة؟!
عدتُ من امتحان اللّغة العربية ذاك اليوم مسرعةً لأتحقّق من صواب إجاباتي من جدّتي، كما جرت العادة طيلة سنوات دراستي، ومع الجواب الأخير تبسّمتُ وكلّي رضىً جافاني بعدها عقداً من الزمن. غير أني شعرتُ لحظتها بحزن الفراق. لقد أنذرَت تلك اللّحظة، أو هكذا اعتقدتُ، بنهاية العلاقة التي لطالما قامت على التحدّي والنديّة مع صديقتي اللّغة العربية. لن أخوض معها في المدى المنظور أيّ تحدٍّ لإيجاد خبرٍ لمبتدَأ وَرَدَ قبل بيتَي شعر أو ثلاثة، أو في إيجاد علّة المنع من الصرف، أو تأويل الضمائر (بالمناسبة، مخطئٌ من يعتقد أنّ ما من تطبيقٍ لذلك في الحياة العملية، إذ إنّ لتأويلِ «الضمائر» والكلام وحده تطبيقاتٍ لا تُعَدّ).
لم يبقَ لي اليوم من زملاء مقعد الدراسة سوى «اللّغة العربية». هي وحدها من حَفِظَ الودَّ وطيب العِشرة، هي وحدها من لم يطعن في الظهر، وهي وحدها الأصيلة التي لم تخُنّي كلماتها في أصعب المواقف التي مررتُ بها، في وقتٍ خانتني فيه كل الكلمات بكل اللّغات وأنا أتلقّى رشقاتٍ من سهامِ من لم يشفع لي إتقان لغتهم ليقبلوني بينهم.
فيا أيتها الأم الرؤوم التي جسدتُ يوماً في عملٍ مسرحيّ، أكتب عنكِ ولكِ وإليكِ في يوم عيدك...
لم يمنعني يوماً حبكِ من السعي وراء امتلاك أدوات العصر وإتقاني غيركِ من اللّغات، ولا وجدت نفسي على المقلب الآخر مضطرة لتبديل جلدتي والتنكر لكِ بعد أن اخترت متابعة تخصّصي في بلد أجنبي كنتِ تُصدرين العلم له يوماً.
أتعلمين أن أوّل كتاب اشتريته عندما بدأت دراستي الجامعية كان المعجم الطبّي الموحّد الذي وضعه نخبة من الأساتذة المختصّين من عدة بلدان عربية بغية توحيد المصطلحات الطبية من محيط الوطن العربي لخليجه، فكان رفيقي في دراستي الجامعية؟
أتعلمين أيضاً أني وبرغم إتقاني لأغلب مصطلحاته باللغات الثلاثة، العربية والإنكليزية والفرنسية، لم أتلقَّ يوماً سوى نظرات الحيرة والضياع إذا ما استخدمت أيّاً من المصطلحات المدرجة بين دفّتَيه باللّغة العربية أمام أي من الزملاء العرب؟
أتدرين أن مصطلحاته بغالبيتها لا تمت لك أو لأصولك بصلة، وأنها ليست سوى محاولاتٍ يائسةٍ لتعريب مفرداتٍ أجنبيةٍ مركّبة وفق طرائق اصطلاحية ووضعية يُعاني أساتذتنا قبلنا من تقبّلها والتكيّف معها، فما بالكِ من استخدامها بسلاسة؟ لن أحدّثك بالطّبع عن نوبات الضّحك التي تُثيرها بعض المصطلحات في صفوف الطلّاب وكأنهم سمعوا كلماتٍ بالصينيّة أو اليابانيّة.
أتعلمين أني تركت يوماً إحدى محاضراتي الجامعية المملّة وذهبت لعيادتك في بيتك، مجمع اللّغة العربية، فلم أجد فيه سوى قليلٍ من المخطوطات التي بلي ورقها وأخذ بالاصفرار، وكأن الزمن قد توقّف فيه قبل نحو خمسمئة عام؟
أتعلمين أنه وبينما يتم التحضير لطبعة جديدة من هذا المعجم الموحّد، تظهر المئات من المصطلحات والمفاهيم العلميّة والطبيّة الجديدة التي تحتاج لاجتماع لجان التعريب واتفاقها على مقابل عربي مناسب لها، ولربما تعلمين أكثر من أي أحد آخر أن أبناءك إن اتفقوا يوماً على شيء، فهو اتفاقهم على ألا يتفقوا.
أخشى إن أخبرنكِ أيتها القديسة عمّا بات عليه أبناؤك من الشقّاق والنّفاق والتنكّر لك والتشبّه بمن عاداك أن أتسبب لك بنوبة قلبية أُسرع بها بوفاتك! أيُّ عزٍّ يستحقّه اليوم قومٌ أضاعوا لغتهم، أو كما وصفهم ابنك الشاعر محمود درويش: عربٌ أطاعوا رومهم... عربٌ وباعوا روحهم... عربٌ وضاعوا...
قد لا تكفيني السّطور لتوصيف الحال التي وصلتِ إليها يا عروس العيد. لربّما يدّعي غالبيّتنا أنه يملك تفسيراً علمياً وتاريخياً لما آل إليه حالك، ولكن لعلّه من غير الواقعي، بل لعلّه ضربٌ من السذاجة، أن أدّعي أنني بما أكتبه إليك اليوم سأطرح علاجاً ناجعاً أو آلية إنعاش أعطيكِ عبرها قبلة الحياة. سأكتفي هذه المرّة بطبع قبلة على جبينك فقط، مسدلةً الستارة المخمليّة الحمراء مرّة جديدة على تلك الأمسية التي أحييتك فيها بعد أن مضى عليها ما يُناهز الخمسة عشر عاماً. لكن اسمحي لي أن أسدل الستارة هذه المرة باللّغة المحكيّة وعلى الأنغام الرّحبانية من الجيل الثاني:
«بكرا برجع بوقف معكن، إذا مش بكرا البعدو أكيد
أنتو احكوني وأنا بسمعكن حتى لو للصوت بعيد
ولا غنية نفعت معنا ولا كلمة إلا شي حزين
إذا ما بكينا ولا دمعنا لا تفتكروا فرحانين».

* دكتورة صيدلانية وباحثة سوريّة مقيمة في باريس