جورج سجعان جرداق (1931- 2014) فتح بصره على عيون الطبيعة وسهولها حيث ترعرع في «مرجعيون»، وفي هاتين العينين صفاءٌ أخفى بصيرةً ثاقبة إلى علياءٍ حن َّإليها، فكابد بشغف هما ًوجودياً احتوشه، يحوطه وجدانٌ ملتهب أسكبه ببراعة في حروف قلق معرفي لم يجعل منه ترفاً ولا ملكاً شخصياً، وهو المؤمن ببراءة الكلمة ورقة الشعور التي توحّد بين بني البشر وتحاول الإرتقاء بهم من مستنقعات أنانيتهم التي مزقتها طوائف وجماعات متناحرة.يستصعب الحديث عن الأديب اللامع جورج جرداق في ذكراه السابعة، وهو ناسك العشق للكلمة، ولا تسعه سطور، وهو الذي سطّر بيراعه الطيّع أنشودة أنسنة تزهو النفوس من رحيقها وكأنك أمام سلاسته ورشاقة ألفاظه في حدائق معلّقة غنية المذاق والألوان تجتذب بعذوبتها صاحب كل طبع رقيق وذوق جليل وحس مرهف.
تتهيب في حضرته وهو إمام في الأدب ومقدّم في موسوعيته الفريدة التي تنم عن خصال امتزجت في كل ما قاله وكتبه حتى تراه شاهداً بحرارة مشاعره إبان مراهقته وطفولته عندما كان مشاغباً يتحين الفرص مع أترابه متسلقاً جدران مدرسته في حصص الأدب العربي، إذ يتسلل هناك ليستريح من عناء دنيانا مستظلاً تحت شجرة قريبة من مدرسته، ويقرّ عيناً حينما يقلِّب بأنامله صفحات نهج البلاغة وديوان المتنبي ويغرف من معين اللغة الصافية ممتلأً منهما قدر ما يريد.
قال جرداق عن «نهج البلاغة» بأنه كتاب شامل وحاضن للفكر الإنساني بكل عموميته وخصوصيته وهو مثال الكتاب الرصين.. وهو صورة مثلى في جمال التعبير عن المحتوى بحيث تصبح المادة والصورة فيه وحدة لا تتجزأ...
لعله هو والمصري صلاح عبد الصبور كانا من القلة القليلة التي كتبت برصانة عن علي بن أبي طالب، فلقد أخرج عمله الموسوعي «علي صوت العدالة الإنسانية» ثم ألحقه بـ «روائع النهج» لتشهد نفسه قبل رحيله على عمل يسير عدّه جهداً متواضعاً ووفاءً لهذه الشخصية الملهمة.
تحدث المؤرخ اللبناني حسن الأمين عن صديقه: «إن أول ما يروعك من كتاب الإمام علي هو هذا البيان القوي المتدفق الأصيل الذي يضع جورج جرداق في القمة بين أدباء العربية، وحين توغل في الكتاب يخيل إليك أنّ أحداً من المفكرين لم يكتب عن علي قبل اليوم، وأن كتاباً قبل هذا الكتاب لم يوضع عن ابن أبي طالب، وإلَّا فأين كانت هذه الصور المشرقة التي جلَّاها قلم جورج جرداق المبدع الخلَّاق، وأين كانت هذه الكنوز الخبيئة التي كشف عنها بيان جرداق الساحر؟!».
اختصر لي يوماً -عندما زرته في منزله محاوراً -كلامه عن كتابه الموسوعي قائلاً: «الإمام علي كما يبدو في حقيقته الثابتة من خلال هذا الكتاب، هو الصيغة الكونية للعقل العربي المبدع والقلب الخيّر، والوجدان النقي، والعدالة الإجتماعية، والخصائص الإنسانية الكريمة، فكل هذه الصفات جبلت في شخص واحد عرف كيف يحمل أعباء ما ألقي عليه وما نشأ به وعليه من تجربة إنسانية رائعة ومنفتحة، ومعايشة للواقع بكل تفاصيله، فعاش للواقع وكان المثال الأول لما يجب أن يكون عليه».
الكاتب والمتكلم جرداق صاحب مدرسة في التعبير، فذائقته الصافية مشفوعة برزانة تجني ثمار تجارب ضاربة في عمق الحياة حتى وهو في أسلوبه الساخر يحيلك إلى نقد يوصف الحال عله يصدم واقعاً لطالما حلم بتغييره كي يكون كبيراً بكبر قلب الإنسان والعقل، ولكن يا حسرتاه لو أتانا اليوم لكان أكثر نقداً وبقي يكتب ويتحدث ساخراً عمّا تقترفه عصابات الجهل والفساد وما تخرّبه أيادي الظلاميين وما تنخره زُمر المتعصبين في ركائز الحياة.
لا يمكنك إلا أن تنحني أمام تواضع زيّنه وأمام فطنة لبقة جمّلته وحذاقة غازلت الكلام الطيب وافترشت عنده بساط العفوية تستفز موائد أهل المعرفة وتخاطب الناس أن يعودوا إلى أصالتهم التي غيبوها بجشعهم وعصبياتهم وجهلهم.
آمن بأنّ من لا تهز وجدانه الكلمة ولا تحرك كيانه أصوات العدالة ليس جديراً بأن يبني وطناً. مع ذلك تراه عزف بإجادة على كل وتر ينساب مع كل خفقة قلب إلى أن تعود مواجيد الخلق إلى نقائها وتهجر سطوة أهوائها إلى عالم ملؤه إنسان متطهر من الملوثات.

* أكاديمي وحوزوي