التاسع والعشرون من شهر آب (أغسطس)، صادف الذكرى الثمانين لميلاد أسطورة الكاريكاتور الإيراني كيومرث صابري فومني، الأديب، والكاتب ورسّام الكاريكاتور الهزلي الشهير والمعاصر، الملقّب بـ «قول آغا» الذي يعدّ ظاهرةً فريدةً بعد انتصار الثورة الإٍسلامية في إيران. في ذلك اليوم من عام 1941، دخَلَ جيش حلفاء الحرب العالمية الثانية إلى إيران، بينما ولدَ «قول آغا» في إحدى مدن جيلان الشمالية.

أما أنا، فأستغلُّ مناسبةَ ذكرى ميلادِه الثمانين، لأستحضرَ اسمَ هذا الصديق المثقف والأديب والفنان المبدع من بلادي:
تعرّفتُ إلى «صابري» قبل أن يرتديَ بذلةَ «قول آغا» الشهيرة، في مجلس التعاون الدولي في وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، في أوائل الثمانينيات، فقد كنا زميلين في العمل وكانت مكاتبنا متلاصقة هناك. الأمر الذي جعلني أكوّن فكرةً عن سجاياه الإنسانية والأخلاقية من خلال معاشرتي له عن قرب، حيث كان في تلك الفترة يعمل مستشاراً فخريّاً في مجلس التعاون الدولي لوزارة الثقافة، حيث تولّيت مسؤوليّتي الرّسمية الأولى في النظام الإداري للبلاد.
كان صابري رجلاً بأخلاقٍ عالية، محبّاً وجذاباً. كان ينجذبُ إليه الجميع في الإنطباع الأول صغاراً وكباراً. في الوقت ذاته، كان فرداً مثقفاً، ثوريّاً ومسؤولاً.
لا تزال انتقاداتُه السياسية والاجتماعية والثقافية الساخرة رغم جديته في أداء أعماله، حاضرةً في أذهاننا على رغم مرور أكثر من أربعةِ عقودٍ على رحيله. والأهم جلسات «قول آغا» التي عوّدَنا على انتظارها ومتابعتها.
اللّافت أكثر في شهادة زملائه والمقرّبين، المنحى الجاد والمعنوي في شخصيّة كيومرث صابري، الذي يطغى على شخصيته الهزلية.
تعمّقت معرفتي شخصيّاً بهذا الفنان والأديب أكثر خلال زيارتنا المشتركة إلى حجّ بيت الله، حيث كان مقدّراً لي أن نكونَ رفيقين في هذه الرحلة المعنوية والروحانية ثلاث مراتٍ خلال حياته. يُقالُ إنّ الأشخاص يوطّدون علاقاتهم أكثر خلال السفر، حيث يتعرفون أكثر إلى أخلاقيات بعضهم البعض.
أذكرُ أنّ نشرةً إخباريةً كانت تُوزّع على حجّاج بعثة الإمام الخميني كل يوم، تشرح لهم تفاصيل مناسك الحج، إضافةً إلى أخبار العالم وإيران ومكة والمدينة. ومن أجل تسهيل فهم الحجاج للنشرة وجعلها أكثر جاذبيةً بالنسبة لهم، كان صابري - بصفته أحد العاملين في هذه النشرة - ينشرُ في أحد أقسامها يومياً، صفحةً بعنوان «حكايات جعفر آغا» بأسلوبٍ هزليٍّ مضحك، يتطرق فيها إلى الأخطاء الشائعة التي يقع فيها الحجاج وما إلى ذلك من مواضيع تهمّ الحجاج الإيرانيين، مما جعل النشرةَ واسعةَ الانتشار والشعبية في صفوفهم.
من الجدير بالذكر أنّ رحلات الحجّ كانت بالنسبة إلى صابري ذات وقعٍ وتأثيرٍ كبيرين على نمط كتابته لاحقاً. يقول في مذكراته عن الحج: «في مكة ذهبتُ إلى الكعبة، تناولتُ قلمي وتوجهتُ إلى الكعبة وقلت: أنا كرّستُ قلمي لله في بيت الله هنا. إلهي فلتشهد عليّ، بأنني سوف أسيرُ في طريق إعلاء دينك ووطني. فلتصنّي من الزّلات ولتحفظ قلمي من الانحرافات».
كان صابري ينتمي إلى أسرةٍ فقيرةٍ، حيث كان أبوه موظفاً بسيطاً في وزارة الأوقاف، وكانت أمّه تدرّس القرآن في مكتبة القرية، فقد كانت من النساء القلة المتعلمات في المدينة. اضطرّ صابري إلى العمل بعد وفاة والده بعدة سنوات ليكفي حاجيات الأسرة وتكاليف دراسته، فعملَ في الخياطة، ويعبّر بأنه تعلم الكثير من تلك المرحلة من حياته.
ثم بعدما أنهى مرحلة الثانوية، عيّنَ معلماً في مدرسة مدينته الشمالية «صومعه سرا»، حتى صار مديراً للمدرسة بكاملها. درس الحقوق في جامعة طهران وواصل التعليم رغم إيقافه عنه فترةً بسبب فعالياته في المظاهرات المعادية للشاه وحضوره الدائم فيها.
بدأ صابري مشواره في الكتابة في عمر الـ 14، حيث كان ينظم أشعاراً تحت عنوان «يتيم» أو كان موضوعها اليتيم دائماً، متأثراً بوفاة أبيه. ثم بدأ مشواره في الكتابة للمجلّات والصحف.
كان صابري عاشقاً نهماً للكتب والمجلات والصحف، فكان مداوماً على قراءة إحدى المجلات الشهرية المجانية بانتظام، وكان يعيد قراءة العدد الواحد مراراً وتكراراً، ففيها الكثير من عناوين الكتب والمؤلّفات. وفي أحد الأيام، توقفت المجلة عن الوصول إلى قرية صابري مدةً من الزمن، فكتب صابري رسالةً إلى إدارتها يشتكي بطريقةٍ مميزة عدم حصوله على الأعداد الجديدة. فوصلته الإجابة «وصلتنا رسالتك الهزلية والحلوة المذاق» مرفقةً بكافة الأعداد الصادرة.
يقول صابري إنّ هذا الرد على رسالته، كان سبباً ليمضيَ في طريق الكتابة الساخرة.
كان صابري قريباً من رجال الثورة لا سيما السيد علي الخامنئي والشهيد محمد علي رجائي حيث عيّن في عهد وزارته ورئاسته لاحقاً مستشاراً ثقافيّاً له. ثم بقيَ في هذا المنصب في عهد الإمام الخامنئي.
تولى هذا الفنان مسؤولياتٍ ثقافيةً عديدة وسافر إلى بلدان العالم، وراح شيئاً فشيئاً يبحث عن ركنه الخاص في الصحف، فاختار شخصيةَ «قول آغا» اسماً مستعاراً ليكتب انتقاداته السياسية والاجتماعية والثقافية في صفحته الخاصة بعنوان «كلمة حقٍ على الهامش» (بالفارسية: دو كلمه حرف حساب)، وذلك عام 1984.
على هامش الثورة، وما بعد مجريات الحرب المفروضة، كان صابري يكتب ناقداً الأوضاع السياسية والاجتماعية التي خلفتها الحرب، مما دفع الغرب إلى تسميته «الصمّام»، مراهناً على أن صابري سيكون بمثابة الصمام الذي يتنفس منه الشعب فتتصاعد المعارضات شيئاً فشيئاً ضدّ النظام. لكن صابري بذكائه الحادّ ووعيه الوطنيّ، وظّف هذه التسمية كذلك ساخراً، مُطلقاً عليها اسماً آخر (من سوباب إلى سوفاف بالفارسية)، متصدياً لهذا الاستغلال الغربي لقلمه. أمر زاد من جماهيريته في الداخل الإيراني ومن جاذبيته بالنسبة إلى مختلف الأقشار السياسية والاجتماعية.
هكذا واصلَ كيومرث صابري مشواره، حاملاً شخصية «قول آغا»، وقلمه اللاذع في نقده والساخر في أسلوبه، لكن الملتزم بقضية بلاده، والحس الشعبي الثوري واحترامه لرجال الدين (حيث لم يتعرض يوماً لمكانتهم الدينية أو لباسهم). وتولّى بعد ذلك رئاسة تحرير العديد من المجلات وافتتحَ دار نشر «قول آغا» عام 1991، إلى جانب العديد من المؤلفات الهزلية التي تركها. وكانت كلمته قد أصبحت في هذه المرحلة ذات تأثير كبير على الرأي العام الإيراني بعدما كسب ثقة الجميع وإعجابهم بأعماله.
تجدر الإشارة إلى أن صابري تزوّج وكان له ولدٌ وبنت، حيث توفي ابنه وتركَ في قلب صابري فجوةً عميقةً أثرت عليه.
توفي قول آغا عام 2004، إثر صراعٍ مع المرض، الذي لم يعرف عنه شيئاً إلا عدةٌ من رفاق الدرب، لأنه كما كان يقول دائماً:
«حتى لا أجرحَ قلباً أو أعذّبَ روحاً»
وكان شعارُ قول آغا دائماً:
«ليس منّا من لم يكن بشوشَ الوجهِ
ليس في حقيبةِ «قول آغا» عبوسٌ واستياء»

* المستشار الثقافي الإيراني في لبنان