«الكتابة: هي كتابة على كتابة»..هذا ما خطر ببالي وأنا أحاول الكتابة من جديد عن الصديقة الراحلة حياة الحويك عطية.
للوهلة الأولى سألت نفسي:
ماذا سأكتب عن حياة؟

فحياتها «سِفرٌ»، أحتاج لسنوات طويلة للغوص في تفاصيله، فكيف لي أن أكتب عنك يا حياة في عُجالة؟
أجبتَني:
لكنكَ كتبت خلال ساعتين بورتريه حياة، وحولته خلال ثلاث ساعات إلى فيديو؟
- نعم، فعلت، لكنها لحظة ألَق ذهبت إلى حال سبيلها. كنت حزيناً على حياة، فكتبت ما كنت أشعر به في تلك اللحظة الفارقة.
- إذاً أعِدْ كتابة ما كتبته بطريقة أخرى.
لكن، هيهات أن تأتي لحظة ألق أخرى، ينزف فيها مدادي حزناً من جديد.
*****
«الكتابة: كتابة على كتابة»
هل يمكن أن نعيد كتابة ما كتبناه سابقاً، ويبقى الحرف نافراً، وسحر الكلم حاضراً، والمعاني في البال؟
***********
حياة الحويك عطية
أنت سيدة الحيوات الخمس
*******************
سيدة الأرض والمكان
أنت سيدتي... سيدة الأرض والمكان
إلى الشمال... إلى الشرق قليلاً، حيث ولدت في «حلتا»، أو «الأرض الخضراء» وفقاً للسيريانية. إذاً أنت يا حياة لست سيدة الأرض فحسب، بل أنت سيدة الأرض الخضراء.
هل تذكرين يا حياة «جرن الماء»، وطعم مائه العذب؟
هل ما زلت يا حياة تعتقدين أن الأطفال يأتون من هذا الجرن، بعد أن تصلّي الأمهات للعذراء، فتُنزِلَ إليهن مع الماء أطفالاً.
هل تذكرين بستان الجوز والزيتون؟
هل ما زال دير الراهبات أو مدرستك الأولى حاضرة في البال؟
الأرض يا حياة؛ حياة، والمكان في الأصل حياة أيضاً. فأنت، وأنت تصفين بيروت، مدينة الوجد وآخر المدن الحزينة، قلت: أحبها ولا أحبها.
أحب في بيروت حضنها...
لكنك يا حياة، لم تكملي الجملة، ولم تقولي لماذا لا تحبينها، وكأنك بذلك تقولين: إنك تحبين بيروت، لكنك لا تحبين الابتعاد عنها.
وفي عمان، حيث عشت ثلثي عمرك، عشقت الأرض، وتماهت بداخلك المعاني، فأنت، كما قلت، لم تنتقلي من مكان أليف إلى آخر أكثر أو أقل أُلفة، بل تتنقلين في المكان نفسه.
وحتى وأنت تذهبين إلى هناك... إلى باريس، لم تشعري أن الأرض غابت عنك، بل حملتِها معك، فأنت سيدة الأرض.
تردّدين: الأرض كالهوى، حينما أحبها لا تنفيني.
الأرض تتنفسك يا حياة... وأنت تتنفسين أنفاس المدينة... أنفاس بغداد ودمشق وحيفا والقدس ويافا والخليل، والقاهرة، حيث فاضت روحك إلى الرب.
تطوفين في المكان من الضفة إلى الضفة، فتلك الضفة لنا، وهذه أيضاً لنا، وما علينا إلّا أن نرفع القبعة لحياة، هي سيدة الأرض والمكان، حيث يسكن الله.
*****
سيدة الكلمة والموقف
**********************
حياة الحويك عطية
أنت سيدة الكلمة والموقف
والموقف حياة يا حياة
**
أنت سيدة الكلمة والموقف
أذكرك...
كنت تقذفين كلماتك بعنف مقاتل اسبارطي، وحينما كنت تبتسمين، يرى الرائي السيف يلمع.
أنت سيفٌ جميلٌ مصقولٌ لامع، لكنه بتَّار قاسٍ، يقطع بلا رحمة، حينما يتعلق الأمر بالموقف والهوية.
ابنة الحزب تتكلم ... حياة أخرى تعيشها حياة في الحزب السوري القومي الاجتماعي.
كنتِ ابنة الكلمة والموقف، لمَّا كنتِ تتكلمين، كانت جغرافيا «الأمة السورية» تتحدث.
كنتِ ابنة «القضية»؛ قضية الزعيم أنطون سعادة... تبحثين عن الوجد وسط كلمات «سايكس - بيكو» المتقاطعة، لكنك لم تتوهي قط في الربع الخالي ولا هناك في الصحراء الغربية، أو حتى في صحراء تكساس وجبال الغرب القاسية في أوروبا.
كنت يا حياة سيدة الموقف والكلمة
ولمّا أردنا أن نناديك، وجدناك هنا، حيث الكلمة لا تضيق بالسامعين، ولا الموقف يُفَصَّلُ على مقاس الطامعين الطامحين.
***
سيدة اللغة
**************
حياة الحويك عطية
أنت يا حياة سيدة اللغة
واللغة يا حياة لا تحتاج سوى لعاشقٍ يجترح المعاني، فلا يجرح الصورة ولا يخدش حياء الحرف.
**
اللغة عند حياة ليست صندوقاً تنهل منه المعاني، بل هي حياة، لذا كانت كلماتك لوحة رسمتها ريشة فنان، أو ثوبًا طرّزته أنامل سيدات المكان، حيث عشت وما زلت تعيشين.
من يقرؤك يا حياة، وأنت تُخرجين الدرر من مكامنها، لا يمكن له أن يكون محايداً، إمّا أن يكون معك، أو أن يكون مع نقيضك.
كنت تكرهين اللغة الصفراء الباهتة، تعشقين المباشرة والوضوح، لكنك لم تكوني قط «مُسطَّحة»، فوضوحك ومباشرتك كانا حرفة لا يُتقنها إلا من كانت اللغة له أيديولوجيا، ومسقط رأس.
وأنت، أيها القارئ، تقرأ «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية»، وكنت تعرف الفرنسية، وقرأت الكتاب بلغة صاحبه روجيه غارودي، تشعر كأن حياة هي صاحبة الكتاب، وهنا تكمن عبقرية اللغة... وكيف امتلكت حياة ناصيتها.
فغارودي حاكم النص التوراتي بوعي مفكر غربي، وأنت يا حياة عالجت النص من وحي معرفتك بالشرق، وأسرار الكلمات والمعاني.
ومن يقرأ «عالم صوفي»، يشعر أنك يا حياة، كنت تلك الفتاة «صوفي أمندسن»، التي تتلقى رسائل دروس الفلسفة. كأنك يا حياة، وأنت تترجمين أو تعيدين كتابة هذه الرواية، عدت إلى المراهقة، وأخذت تعزفين لحن أول العمر.
لكن، من يقرأ أشعار السياب وحيدر محمود وعرار وفدوى طوقان بالفرنسية، يشعر أنك أعدت نظمها بالفرنسية، وكأن الفرنسية استحالت لغتك الأم، كالعربية يا حياة.
في البال كلام كثير عن اللغة يا سيدة اللغة، لكن يكفيك أن لغتك لم تمُت وإن مات الراوي يا حياة، فلتبقَ لغتك خالدة يا حياة، وإن مات جسد حياة.
***
سيدة الجامعة والعلم
**************
حياة الحويك عطية
أنت، وإن كنت الجامعة، فأنت سيدة الجامعة
أنت سيدة العلم والحياة الأكاديمية
***
من يعرفك من طلابك؛ لم يصدق أن حياة ماتت
كان طلابك قد فارقوك موجوعي القلب باكين، وأنت تفارقين الجامعة إلى التقاعد الأكاديمي.
كانوا يتساءلون: هل يتقاعد العلماء؟
لم تجبهم الجامعة، فقد كانت مشغولة بالبحث عنك في البدائل.
فهل وجدت الجامعة البديل عنك يا حياة؟
الكل سيان إلاكِ يا حياة، فهل يمكن أن يجد الطالب سيدة الحيوات الخمس في حياة واحدة يا حياة.
كانت الجامعة حزينة يوم فارقتِها، لكنها كانت أكثر حزناً يوم أعلنت الحياة موت حياة.
الجامعة بكتْك بحرقة الموجوعين، لكن طلابك ذرفوا الدمع الساخن حزناً على حياة، التي ظلت لهم كل الحياة.
زملاؤك، وإن اختلف بعضهم معك، راجعوا يوميات الجامعة في الجامعة، زاروا المدرجات، تفقّدوا قاعات الدرس، فلاحظوا أن الجدران حزينة، والساحات بفراقك جفت خضرتها، والأعلام فقدت بيارقها.
صوتك، كما قالوا لي ما زال في المكان، وإن كنت قد غادرتِه منذ عام أو بضع عام ... يبحث هناك عمن يصغي إلى كلماتك الساخنة، ينظر إلى الطريق الواسعة.
**
سيدة الحقيقة
************
حياة الحويك عطية
أنت سيدة الحقيقة
هنا في الرابطة... في جبل اللويبدة، وإن انتقل مبناها إلى شارع عبد الله غوشة
كنت الحقيقة وسيدتها البهية
**
كنا نجلس هنا .. كنت بيننا تسمعين، ولمَّا تتكلمين، كانت كلماتك فصل الخطاب.
لم تكوني الزعيمة... لم تكوني القائدة، لكن كلماتك كانت تحسم الخلاف، تقولينها من دون مواربة: هذه هي الحقيقة!
لمن لا يريد أن يصدقني، فهذا حسبه، أو أن الممحاة مسحت الحقيقة من دفتر ذكرياته، أو أن عقله لا يريد أن يعترف بالحقيقة.
كنت هنا يا حياة؛ حياة؛ تتنفسين الحقيقة، والحقيقة في رابطة الكتاب هي حياة المثقف، وإلا يتحول قلمه إلى ريشة خفيفة تتقاذفها الرياح من سيد إلى سيد آخر أكثر ثراءً و/ أو نفوذاً.
كنتِ تتنفسين يا حياة حياة المثقف، وإن نازعتك في التفاصيل تفاصيل أخرى، تمقت الحقيقة، وتفضل وهماً، أسموه حيناً «الحداثة»، وحيناً آخر «ما بعد الحداثة»، وفي أحايين أخرى «العصرنة»، ورابعاً وهم «التكيف»، وخامساً وهم «الواقعية»، وسادساً وسابعاً، كلها أسماء لمعنى واحد هو أن نبتعد عن الحقيقة.
رابطة الكتاب الأردنيين كانت حياة خامسة لك يا حياة، حياة المثقف العضوي، المشتبك مع قضايا أمته، لا تلهيه الأضواء اللامعة، ولا الجوائز «المفبركة»، ولا العناوين «البراقة»، ولا الرحلات «الخاطفة» عن دوره في التغيير، والبحث عن حياة أفضل للناس، كل الناس.
كنت تمقتين الخلاص الفردي، فأنت، وإن أتيح لك، حملت صليبك في رحلة «الصلب» إلى المقصلة.
لم ترائي ولم تستسلمي للزيف ... كنت «سيزيف» يحمل صخرة حقيقة «الحياة»، تصعدين فيها إلى قمة الجبل، وحينما كانت الصخرة تهوي إلى الوادي، لم تكوني تهوين معها، بل تصعدين الجبل من جديد، كنت «فينيقاً» آخر، يلقي عن جناحيه المتكسّرَين رماد الوهم، ويحلق من جديد.
***
حياة الحويك عطية
يا سيدة الأرض
يا سيدة الكلمة والموقف
يا سيدة اللغة
يا سيدة الجامعة والعلم
يا سيدة الحقيقة