يبدأ فيلم الأنيمشين «الرحلة» (2021) الياباني بنكهة سعودية. تدور أحداثه في شبه الجزيرة العربية، باستحضار قصة «أبرهة الحبشي» المحتلّ القادم من اليمن لهدم الكعبة واستعباد أهل مكة. وبطريقة السينما اليابانية الملحمية، نعرف لاحقاً كيف تمّت مواجهة الأشرار، من قِبل رجل شجاع يقود فرقة صغيرة للدفاع عن مدينته وشعبه، سلاحه الوحيد هو «الإيمان». منذ اللقطة الأولى، تصل الرسالة التي دُفع لأجلها كل هذه الأموال. عناصر سينمائية جبارة وناجحة عالمياً، استغلّها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، للترويج لشخصه وسياساته، باعتبار الجزء الأكبر من فعاليات الترفيه هي أداة لتمكينه من السيطرة على الحكم بعد قمعه أيّ معارضة في العائلة الحاكمة. وهو الذي استفرد بقرار الحرب على اليمن، وكانت له اليد العليا في تدمير وقتل أفقر شعب وبلد عربي. ورغم الدمار والقتل، إلا أنّه تحوّل إلى مستنقع لـ «أبرهة السعودي» وجعل من احتمال تحقق نصر عسكري سعودي أمراً بعيد المنال.الفيلم من إنتاج شركة «مانغا» السعودية التابعة لمؤسسة «مسك» الخيرية التي يديرها فريق معيّن من قبل ولي العهد محمد بن سلمان، بالشراكة مع استوديو Toei Animation اليابانية، تم إنجازه بمساعدة فريق تجاوز عدده الـ300 شخص، تحت إدارة المخرج شيزونو كوبون، الذي أخرج سلسلة أفلام «المحقّق كونان»، و«غودزيلا». العمل متوفر باللغتين العربية واليابانية وانطلقت عروضه الأولى في أكثر من عشر دول عربية من بينها الرياض وبيروت.
من جهته، كان مستشار محمد بن سلمان، رئيس «الهيئة العامة للترفيه» السعودية، تركي آل الشيخ، قد أعرب في تغريدة نشرها عبر حسابه الرسمي على تويتر: «كلي فخر كسعودي وعاشق للمانغا والأنمي، بهذا الفيلم الذي يعتبر أول إنتاج سعودي ياباني مشترك ومع استديو «توئي» الشهير... شركة «مانغا» تابعة لمؤسسة «مسك» الخيرية التي تحمل الأيادي البيضاء لسيدي ولي العهد ... شباب سعودي يفرح القلب وكسبوا خبرة في هذا الفن من منبعه في اليابان». هذه الشراكة الفنية بين ولي العهد ومستشاره تركي آل الشيخ، انطلقت من فكرة تحويل المملكة المحافظة إلى وجهة فنية، ونموذج شبيه بالنموذج الإماراتي، الذي قال عنه، رئيس وزراء العدو السابق ايهود باراك خلال استضافته في قناة «العربية» قبل أيام: «إن الاسرائيليين اندهشوا لما وصلت إليه أبوظبي، وجعلنا ذلك نفكر فيهم كبشر مساوين لنا، يمكن أن يكونوا على نفس القدر من النجاح»!
الخطوة السعودية تتبعت حكومة الإمارات في محاولات التقرّب من الصهاينة، بداية بإطلاقها موجة من صغار المطبّعين، وبث مسلسلات تلفزيونية تهاجم القضية الفلسطينية، وليس آخراً، منع التضامن مع الفلسطينيين في الحرب الأخيرة على غزة. خطوات رافقها، عمل «الهيئة العامة للترفيه» برئاسة آل الشيخ، سليل أكبر عائلة دينية، شاركت الحكام السعوديين طغيانهم الديني والسياسي، قواد «الصحوة» الذين تسلّموا المناصب الدينية والقضائية لعقود طويلة. ثم جاء التخلي عن التشدد وإسقاط السلفية بمساعدة ضخمة من الحفيد الشاب، واليد اليمنى لولي العهد في صناعة محتوى ترفيهي، يناسب طموحات بن سلمان، الذي صرّح لقناة «سي. بي. أس» الأميركية عام 2018: «إن السعوديين قبل عام 1979 كانوا يعيشون حياة رائعة وطبيعية مثل بقية دول الخليج»، وإنّ النساء «كن يقدن السيارات، وكانت هناك دور للسينما»، معتبراً «أنه وأبناء جيله كانوا ضحايا للإسلام المتشدد وغير المتسامح». طبعاً، تجاهل منشأ التشدد الذي أغرق المجتمع المحلي والعالمي. وبالطبع، لا يوجد سحر في تحويل بلد محافظ إلى آخر منفتح ومتنوع خلال سنوات قليلة. السلطة والمال، هما العاملان الأساسيان في خطة بن سلمان الطامح لبناء إمبراطورية قائمة على عبادة الزعيم الشاب، برفقة مستشاره الذي تفرغ أخيراً لكتابة الأغاني والروايات ومطاردة المطربات في السنوات العشر المقبلة، إذ أعلنت «الهيئة العامة للترفيه» نيّتها استثمار ما يقرب من 64 مليار دولار في قطاع الترفيه، وتتضمّن برامج الهيئة للعام الحالي أكثر من 5 آلاف فعالية في 56 مدينة. سبقها وضع الملك سلمان وولي عهده حجر الأساس لمشروع «قدية»، أكبر مدينة ترفيهية في العالم (يتم الافتتاح عام 2023)، وتبلغ كلفة بنيتها التحتية نحو 8 مليارات دولار. مساحة المشروع الترفيهي الذي شُيِّد على أنقاض المنطقة التاريخية التي كانت ممراً قديماً للحجاج، تتجاوز ثلاثة أضعاف مساحة «ديزني».
مهرجانات سينمائية وعروض فنية وغنائية ضخمة، انطلقت بعد حملة التنكيل برموز المؤسّسة الدينية والقضاء على نفوذها. إذ وقعت المؤسّسة القوية بين الاعتقال والتجميد، فيما آثر الكثير من الرموز الصمت، وانخرط بعضها الآخر في خطّة الترويج للتغيير و«الحداثة» السلمانية بإعادة تأويل النصوص الدينية المتشددة، من تغيير للمناهج الدراسية وفرض الموسيقى بعد منعها لعقود طويلة، وافتتاح دور السينما في كل المناطق، وزيادة فعاليات المرأة في المجتمع المحافظ. وبالرغم من رغبة الرجلَين الشديدة في تنمية قطاع الترفيه وجعل المملكة وجهةً ترفيهية على خريطة المنطقة والعالم، لم يخفِ ذلك سيطرة القبضة الأمنية التي بقيت السمة الأساسية للنظام الحاكم، ولم يغطِّ على أجواء الخوف والاعتقالات التي شملت مختلف الشرائح في المجتمع بين حقوقيين ونسويات ورجال دين وجمع غفير من كتّاب وصحافيّين ومدوّنين. حبّ بن سلمان وآل الشيخ للظهور والأضواء واستجلاب كل أدوات الترفيه العالمية، لن يقدر أن يمسح من ذاكرة العالم الجزء المظلم من قصة الأمير الدموي والمهرّج برتبة مستشار.