أنا أدّعي وأجزم أنّه كان لدى عاصي (مع منصور قطعاً) سر كبير وخطير لا يمكننا نحن الذين عاصرناهم ان نعرفه ولا حتى ان نفقهه، فكيف للاجيال التي اتت بعدهما؟! كانا يدركان معنى أنّ كل سر جاوز الاثنين شاع، فقررا أن يتوحّدا بالكلمة والنغمة والفن الحقيقي الشفاف الصادق بعيداً عن الجميع حتى أقربهم اليهما ليبقى سرهم سراً حقيقياً غير قابل للفكاك. عندما توحدا  معاً، أغلقا الباب على سرهما الواحد. قالا للجميع: نحن إثنان في واحد وعبثاً ستبحثون بكيف ومتى وأين ولماذا! نجحا في ذلك الى حدود كبيرة وبعيدة جداً لولا بعض ما تسرب لهما بدون قصد من مقابلات صحافية معهما لتشهد أنّ عملاً ما هنا أو هناك هو لاحدهما. بشكل عام، بقيت وستبقى اعمالهما دائماً عصية على الفكاك وسيصعب حصرها والبحث عن اثر الواحد فيها لانهما كانا صادقين. قد أكون انا الآن عرفت السر، ربما  لأنني تربيت في بيت احبهما بصمت مع سيدتنا الاولى فيروز.منذ نعومة اظفارنا احببناهم كلنا كأخوين براية الثلاثي وكبرنا معهما رويداً رويداً حتى بلغنا بنضجنا الفني بفضلهما حالة نوعية من الكمال الفني اوصلتنا اليه انجازاتهما العظيمة! كنت شغوفاً بكل كلمة ونغمة كتباها كموسيقى أو لتغنيها السيدة الاولى فيروز او للحالة المسرحية الجماعية التي يؤديها الضمير الرحباني في مسرحهما الغنائي واعمالهما الاخرى! سأحاول الآن بكثير من الحب والعرفان أن اخبركم هذا السر. لكني لن افعل هذا بوضوح، بل على طريقتي وبكثير من التمويه والرمزية.
كانا بقدرة قادر وكما نقول بالعامية «مخبيين كمشات الوقت بجياب عمارهم، وحبر قلامهم، وسر أشعارهم ونوتات نغماتن» ! كيف؟ مش رح قول كيف، لازم يلي بدو يعرف هو يبحث. أنا كان عندي تصورات وشذرات معينة جمعتهم منذ صغري لبنة لبنة من صديقهم الناقد الفني والموسيقي بروفيسور الرياضيات الاستاذ نزار مروة الذي صدف كونه عمي! هذه التصورات والشذرات التي رافقت طفولتي عادت بوضوح عندما شرفني الفنان اسامة الرحباني منذ سنوات بزيارة الشقة المتواضعة التي عاش فيها منصور في انطلياس وتحدثنا عنهما كثيراً. سألته عنهما تارةً بحب وبراءة واخرى بحب مغلف بفخ ينوي الايقاع به بدهاء. وكان يجيب برحابة صدر وحب كبير يرفض محاولتي لدفعه للوقوع في فخ التفريق بينهما، وكان يرفض ذلك بإباء حتى تأكدت وضحكت. اسامة لا يعرف نزار الا فيما ندر كما انه لا يعرفني جيداً ولا يدرك عمق معرفتي ومحبتي للثلاثي والثنائي الرحباني،  هو لم يدرك انني في هذا الوقت الذي قضيته معه في اول لقاء لنا في شقة منصور التي يسكنها الآن وحده كم زادت ثقتي بقدراتي وبصدق تلك التصورات والشذرات. ما هو هذا السر؟! بإختصار شديد لا عاصي مات ولا منصور سافر وحده ملك لبعيد... كيف؟ لكن ظاهرة فنانين بعينهم من طراز عاصي ومنصور وفيروز هي ظاهره لا تتكرر في انفتاحها على الفن وليست خاضعة لقوانين فيزياء الزمان خصوصاً في إسقاطاته على المكان اللبناني والعربي والعالمي كما نعرف العالم اليوم. والدليل كيف تحول العالم باتساعه وتنوعه فجأه الى قرية صغيرة. ومع ذلك تبقى الجغرافيا الموسيقية الرحبانية لا تسري بقوانينها الفنية كما ظواهر فنية اخرى لتجمع كل تلك التناقضات في بوتقة فنية واحدة عصية على الفناء في تراكم الزمن بينها عبر تلك الامكنة والانجازات التي خلقها الاخوان لتبقى! وحدتهما خرجت من ظروف وحالة خلايا الجسد والمرض لتتغلب على العجز والموت الفيزيائي من أهمية خيارهما الفريد وحكايتهما تنبع أهمية خلود انجازاتهما ليمكن فهم الكثير مما قاله تولستوي وتركه دوستويفسكي من علامات مضيئة ومعالم جمالية خالدة في تاريخ روسيا وعلاقتها بالنفس البشرية وارتباطها بخلود الجمال الذي ستبقى تتوق له الروح البشرية. كلها قد يسهل فهمها لاعوام في وعبر انجازات الأخوين. كما أنّ هناك أمراً آخر أحبّ أن اكرره دائماً ولن اتعب من تكراره لان معرفته وتكراره غدا واجباً. هذه الحقيقة يسهل اليوم فهمها مع انهيار لبنان الطوائفي المبني على اعادة انتاج الفساد والعمالة وتشريعهما الدائم ليتمكن تحالف الحكام ورجال التفتيت المذهبي للطوائف من التحكم بموارد البلد وسوق الثوار الى مسلخ الطائفية تماماً كما حدث في مسرحياتهما معاً منذ الليل والقنديل وجسر القمر وبياع الخواتم وفخر الدين الى اخر اعمالهما! وهذه الحقيقة تخص الوطن - الحلم - الرحباني الذي ابتكراه وعمماه وعملا على نشره بكل ما لديهما من طاقة بقوة وسلطة الفن النظيف الراقي. هذا الوطن الذي رفضناه جميعاً كل حسب اتجاهه وافكاره وكنا نحن جماعة اليسار المنحوس جزء من هذه اللعبة اللعينة حيث بقينا كل عمرنا نتهكم عليه على اساس انه طوباوي وحالم وبعيد عن الواقع والخ..أحب ان اعترف ان هذا الوطن (وحياتكم عالطيّب) موجود وبكل ابعاده الفكرية والروحية والمادية. وانا بصفتي يسارياً وشيوعياً وماركسياً وروحانياً مؤمناً جداً بلا اي دين رسمي، احب ان أؤكد أننا كنا مخطئين كتيراً وهما الوحيدان اللذان كانا على صواب ورؤية بعيدة النظر. لكل من لا يصدقني أن يعود الى مسرحياتهما وأغانيهما وأشعارهما وموسيقاهما وقارنوها بواقعنا العفن اليوم ومن كل نواحيه! الاهم من هذا، إرجعوا الى  فكرهما الموسيقي الذي قلب الموسيقى والاغنية اللبنانية الشرق العربية من واقع هلامي لا شكل له في حاضر زمانهما وغوصوا فيها بتجرد، عندها ستعلمون انهما كانا مثل انبياء فن ورسل جمال وقديسي النهضه  التي خلقاها وهما  على هيئه شخصين اثنين يحتفظين بقامة فنية واحدة يصعب تكرارها اذا لم يستحيل،  وهما سيبقيان الى الابد حييين يرزقان اكثر من اي حي فينا يرزق! الوقت بين يديهما سيبقى عبارة عن آلة موسيقية يعزفان عليها ابعاد الزمن  واسرار الظواهر والبواطن والحان النور  والحلا والجمال كما يعزفان اسرار المسافات السرية التي تفصل وتربط بين الانترفال الموسيقي الاصغر الذي يفصل بين النوتات السبعة وهي ترسم حدود المقامات على السلم الموسيقي بما يربط علاقاتها الهارمونية باسرار المودال وهارمونيات الأرباع الصوتية التي أخضعاها بذكائهما وإرادتهما لتناسب الموسيقى العربية.. طبعاً ليستنتج المرء هذه الحقائق عليه ان يكون مرهفاً وهو يربط الماضي بضرورات الحاضر القادر على سماع اصوات الحداثة تنادي الفنان الحقيقي القادر على يكون كفوءً بشرف تمثيل عصره ليبني هوية صافية تؤسس للمستقبل كما فعلت ظاهرة الاخوين رخباني . ليكتشف المرء هذه الامور ويستنتج اهمية إنجازاتهما، عليه ان يسكن اعمالهما وينصت ويتفكر لا ان يسمع فقط. وكم يبدو ما قاله في هذا الصدد المؤلف الموسيقي العظيم ايغور سترافينسكي صحيحاً وهو يلمح الى الفارق الكبير بين الانصات والسمع حيث قال بإنكليزية ارفض الانجرار الى ترجمة حرفية لها: 
To listen is an effort, and just to hear is no merit. A duck hears also