إذا كان صحيحاً أنّ لكلّ مقام مقال، فيمكننا التأكيد أنّ مقالنا سيتمحور هذه المرّة حول مقام «البيّاتي» الذي اتّخذه الفنّان الدكتور هيّاف ياسين ركيزة لإصداره الموسيقيّ الثامن الجديد «دمعة بيّاتيّ» من الألف إلى الياء. وياسين هو المتخصّص في ذلك التّقليد الموسيقيّ المشرقيّ القديم والأصيل والخاصّ بعصر النّهضة؛ وهو إذ يتوسّله فليخاطب عبر البيّاتي القوالب الموسيقيّة المتنوّعة، حيث يبدأ (بدايةً ليست بريئة) بقالب «البشرف» الذي قد يشكّل مع السماعي والموشّح أحد أهمّ أعمدة التأليف الموسيقيّ الذي يخاطب النخبة، فيمهّد لتطوّر فكر التأليف الموسيقيّ الآلاتيّ، والذي بدوره لا يقطع مع الغناء، لكنّه يستغلّه كوسيلة تهدف لإشغال وتطوير التأمّل الموسيقيّ، كخطوة أولى لا بدّ منها، للدخول إلى عالم التجريد الموسيقيّ الذي يريد أن يربط بين الماضي والحاضر فيصل إلى مخاطبة عصره وزمانه! بَشرَفُ الدكتور هيّاف لا يستسلم للماضي، ولكنّه لا يقطعه أيضاً، وفي هذا محاولة ليكون نوعاً من همزة وصل. أقول هذا بعد أن تعرّفت على عدّة أعمال سابقة له، وجدتُ فيها هذا الهمّ الذي يَسِمُ شخصيّته. ففي هذا البشرف الموقّع على ضرب الأقصاق الأعرج التسعويّ، يقوم ياسين بتطويع الألحان وترويضها وجعلها انسيابيّة على الأذن رغم تشبيكها مع إيقاع هكذا نوع من الإيقاعات العرجاء، التي لم ينظم عليها لا الموسيقيون العرب ولا الأتراك بشارفهم السّابقة (دون معرفة الأسباب).
وأكثر من ذلك، فقد تمّ استبدال خانته الرابعة الأخيرة، بتقاسيم ارتجاليّة مشبّكة بهذا الأقصاق، وفي ذلك إفساح للموسيقيّ بتقديم تجليّاته الإبداعيّة أثناء الأداء الفوريّ، عكس البشارف التقليديّة التي كان الملحّن يُقَونِن مسار ألحانها الثّابتة في كلّ خاناتها الأربعة مع التّسليم. وقد لفتني هنا مسار لحنيّ جميل للنايّ يمتدّ بشكل أفقيّ متوازياً فوق خطّ اللحن الأساسيّ لبقية الآلات في التّخت، وهو نادر الحدوث إن جرى، أو يمرّ مروراً سريعاً، لكنّه استمر في بَشرَفنا هذا من الدقيقة ٢:٢٢ إلى الدقيقة 3:00، ولا أدري إن كان ذلك مدوّنا أو اجترحته قريحة النايّاتي كتفاعل ابن ساعته! في الحالتين، كان ملفتاً ودلّ على نزعة روح الدكتور ياسين في الإضافة والتحديث دون العبث بروح القالب إلا لمحاكاته بأصوات تريد أن تخاطب عصرنا اليوم.
وفي العمل دولابان أحدهما بيّاتي محيّر، تشعر كأنّه يأتي بصيغه السّؤال، ليدخل عليه لاحقًا الدولاب الثاني على البياتيّ، فتشعر وكأنّه جاء مكمّلًا لحنياً، فالأوّل يخاطب ويسأل ويحنّ، والثّاني يجب ويتمّم ويكمّل. كما يتألّق الموشح المميّز الّذي نال على أثره هيّاف جائزة المباراة الدوليّة في التأليف الموسيقيّ العربيّ كنموذج معاصر يحاكي تقاليد عصر النهضة.
ويحتوي «دمعة بيّاتيّ» أيضاً على قصيدتين من تلحين أصيل للدكتور هيّاف، واحدة من نظم نقولا عيسى بعنوان «قُلَّ إنّه الإنسان» والثانية من شعر أحمد عبد الفتاح بعنوان «راحلون». القصيدتان تنتميان فنيّاً وإنسانيّاً إلى أجواء وجدانيّة، تتوسّل بنقاء فنيّ وصوفيّ، كلّ معاني التغيير التي تطال الوجود الإنسانيّ، من الولادة إلى الرحيل، بكلّ قيمة وشجون. فيقاربهما هيّاف موسيقيًّا باجتهاد، يستنهض بما في تقاليد عصر النهضة من روافد تمتدّ من روح الارتجال والتقاسيم والطرب، إلى كلّ تلك النقلات في سكك الإيقاع والتّلوينات المقاميّة، وطبيعة الغناء بارتفاع وانخفاض للنّبرة، مع قوة في الخشوع، وازدياد في الطرب الذي يستغرق في رسم مسارات أجواء التعبير. هذا التعبير الذي يجتهد بمحاولات الإجابة الموسيقيّة على الحالة الشعريّة، فيأخذك عبرها بعيداً، محاولاً الغوص في محاكاة أجواء هذه القصيدتين، اللتين تحاولان قول هواجس الرّوح المؤمنة باستمرار الوجود؛ وهو يتغيّر ويستمرّ بالحبّ وبالعشق الإلهيّ، القادر على تطويع كلّ أحوال مراحل التغيير الانسانيّة. إضافة إلى ذلك تحاول القصيدتين أن تعبّرا عن هواجس الروح المؤمنة بالقدر، والتي لا تقبل الموت إلّا حبّا للخالق في المحبوب! وكأنّها تعرف العنوان والطريق والمراحل الّتي على المحبّ أن سلكها للوصول سالما إلى مصدره الأوّل، الخالق!
وإذا كانت قصيدة «راحلون» قد اتّخذت في الزمن سعة ما يقارب ثلث الإصدار، لربما نكتفي برصدها من الجانب الموسيقيّ فقط، إذ أتت على ٣ مراحل متعاقبة. ففي المرحلة الأولى تشابهت مع الأداء الكنسيّ البزنطيّ من خلال اعتمادها أسلوب «الإيسن» المتكرّر على قرار مقام البيّاتيّ، ما أضفى أجواء روحانيّة إضافيّة على اللّحن الأساسيّ. أمّا المرحلة الثانية فتبدأ بمقام راست النّوى، مع ترجمة موسيقيّة آلاتيّة للعود والسّنطور والنّاي، ليعود المطرب مستقرّاً على نغمة المحيّر في الجواب، فتقتحم بعدها آلة السنطور باب الايقاع بتقاسيم على ضرب البمب الرباعيّ كما جرت العادة في أسلوب موسيقى عصر النّهضة، ليستمرّ أداء القصيدة بشكل رائع ومشبّك بإيقاع البمب. أمّا المرحلة الثّالثة والأخيرة، والّتي تبدأ باسم القصيدة «راحلون»، يأتي تلحينها لافتاً بثباته على لحن تارةً يصعد صعودًا متسلسلاً من الـRE الى الـ RE العليا وتارة يليه نزول معاكس ومتساوٍ، وكأنّ الملحّن يريد أن يجاري النّصّ الشّعريّ مؤكّدًا أنّنا في الحقيقة لا نموت، فنحن على خطّ سير لحياة مستمرّة بتغيرها، فبعد كلّ موت ماديّ جسديّ، هناك استمرار لحياة الرّوح. ويستمرّ التلحين بعدها ليأخذ شكل الدور المصري على ضرب الوحدة، فيرتجل المطرب لحنه وتجيبه بطانته، ليقفل ثمّ ينتقل باللحن إلى مقام الصبا في المحير، فالحجاز يليه العشاق، لينكسر رويداً فرويداً، وكأن في ذلك دلالة على حتميّة الموت البشريّ، فتتراءى لك صور من النزول بالموت إلى الأرض عند كلمة زائلون، فلا مفرّ من الموت إلّا بالحبّ الذي نعود به لنحيا، فتقول القصيدة هدفها الذي يتلقّفه اللّحن عند عبارة: «ولا نعِش بعضاً لبعضٍ كارهين»، فيصعد المطرب بصوته العذب إلى أعلى درجات جواب الجواب، ليثبت أنّ الروح موجودة مترفّعة وتنغمس وتعيش بالحبّ في العلوّ عند باريها. وفي ختام الإصدار، يتحفنا التّخت الموسيقيّ بتحميلة العينطورة، المنبثقة من ألحان تراث لبنان والشّام ككلّ، بإيقاعها الخاص، مع تقاسيم إقحاميّة راقصة ومتواترة بين آلات التّخت، تطيب للأذن سماع نغماتها بأنامل محترفة.
في النهاية، أحبّ التنويه بأنّه إذا كان اسم الاصدار قد تسرّب له مفردة «دمعة» من تعبير الحزن، فإنّ معظم الموسيقييّن التقليدييّن يلصقونه بمقام البيّاتي تحديداً، وأرى أنّ هذه الثقة ليست دائمة، ويجب إخراجها من جيناته، وبهذا المعنى أجد أن «دمعة هيّاف» في عمله هذا، هي دمعة فرح أكثر ممّا هي دمعة حزن، خصوصاً أنّه من القلائل العاملين على تجديد المسارات القديمة والباليه والملتصقة بكلّ صيغ وقوالب الموسيقى العربيّة التقليديّة. وهو عمل نبيل يستحقّ التوقّف عنده، ودعمه والتنويه به، ومساعدة روّاده على خوض المزيد منه، لجعل هذه المسارات أكثر حيويّة وتفاعليّة، خصوصاً في هذه الظروف الصّعبة الّتي تمرّ بها أجيالنا الصاعدة، الّتي تبتعد شيئاً فشيئاً عن كلّ ما هو راقٍ، بمباركة وسائل الإعلام، الّتي لا همّ لها إلّا رمي هذه الأجيال بكلّ ما يضرب حصانتها الانفعاليّة وتعميم الهبوط والضحالة! لذلك يستحقّ هذا العمل أن يكنّى بِـ «دمعة أمل» أمل نحو الارتقاء أكثر بالموسيقات العظيمة، فبيننا دائماً يعيش الكثير من المبدعين!
يذكر أنّ إصدار «دمعة بيّاتيّ» هو من منشورات «بيت الموسيقى» في النّجدة الشّعبيّة اللّبنانيّة، وهو بالكامل من تلحين د. هيّاف ياسين، الّذي يعزف بدوره على آلة السّنطور ويقود فرقته الّتي تتألّف من كلّ: رهيف الحاج: غناء وكريستو العلماويّ: عود، وجورج الشيخ: ناي، وناجي العريضيّ: رقّ.