يوم الجمعة الثلاثين من تشرين الأول (أكتوبر) ودع جان ميردال، أيقونة اليسار المتطرف في السويد منذ الستينيات وحتى وقت قريب، العالم عن 93 عاماً. منذ أواخر الستينيات برز جان ميردال كشخصية مركزية لليسار الراديكالي في السويد في سياق دوره البارز في تظاهرات الاحتجاج على الحرب الأميركية في فيتنام. وأصبح له حضور كممثل للمثقفين اليساريين الماويين. وحتى حين أخذ هذا التيار بالاضمحلال مع بداية الثمانينيات، وغير أكثر زملاء ميردال أفكارهم، بقي هو في الطريق نفسه. رغم ذلك كان يصعب عليه الانتظام في أي تنظيم سياسي، وحتى عندما كان مصدر إلهام في تأسيس «الحزب الشيوعي السويدي» (يسار متطرف) لم يرض باتخاذ أي دور رسمي له في الحزب. وفي شبابه انضم لفترة الى منظمة الشبيبة الديمقراطية لكنه ما لبث أن غادرها واستمر حتى النهاية كماركسي ماوي غير منظّم!
كان ميردال يرى أن الديمقراطية السويدية عبارة عن زيف. وقد يكون الكاتب السويدي الوحيد الذي عمل بشكل منهجي، وخلال عقود من السنين، على «اختراق نسيج الأكاذيب المسمى بالرأي العام تارة وبالآراء السائدة تارة» على حد وصفه. ان استشفافه للأكاذيب الرسمية، ومناهضته للامبريالية، يفسران المحاولات الكثيرة لإسكاته، وتجميده، وإدانته سياسياً أو تجاهله. كما إنه الكاتب السويدي الوحيد تقريباً الذي قدم منظوراً عالمياً في ساحة الجدل السياسي والثقافي، منظوراً عالم – ثالثياً وموقفاً واضحاً للتحرر من الاستعمار والامبريالية وكل أشكال هيمنة القوى الكبرى. فبثقافته الواسعة ومعارفه الموسوعية، وذاكرته الهائلة، وغزارته النادرة في الانتاج، ونظرته التعددية الى الأشياء، وصياغته الصارمة لنصوصه ومقالاته وتقاريره وكتبه، ألهم جان ميردال وأثر (وسيبقى يفعل بالتأكيد لوقت طويل بعد رحيله) في أناس كثيرين على اختلاف آرائهم السياسية. كان أشرس مجادل في الساحات وفي وسائل الاعلام. وظل حتى التسعين من عمره ناشطاً في المشاركة في حلقات النقاش حول القضايا الجدلية في المجتمع. كان يفاجئ الجمهور، الغافي على التنميطات الجاهزة والاعلام الموجه، بتصريحات ومواقف صادمة. في أحداث بكين عام 1989، مثلاً، صرح بأن التدخل العسكري للسلطات لانهاء التظاهرات كان ضرورياً لحفظ الاستقرار السياسي للصين ولشرق آسيا، فثارت ضده أصوات كثيرة كان من بينها زملاؤه في نادي القلم السويدي الذين طالبوا باقصائه من النادي. كما طولب باقصائه من النادي عندما دافع عن حق التعبير للمفكر الفرنسي روبير فوريسون الموصوم بإنكار الهولوكوست. كانت – في الحق – واقعة هزلية، فالنادي الذي يقوم على أساس الدفاع عن حرية التعبير هو نفسه يريد أن يحرم مفكراً من حرية التعبير، وهو نفسه يريد أن يطرد أحد أعضائه لأنه دافع عن حرية التعبير! كان واضحاً أن ميردال انضم الى نادي القلم مدفوعاً بحسن نية، باعتباره – حسب الزعم السائد - نادياً داعماً لحرية التعبير حول العالم، فيما كانت مواقف النادي تكشف عن انحيازات دولية واضحة. وربما كان إدراكه لهذه اللعبة هو الذي جعله يوفر الجهد على المطالبين بإقصائه من النادي بأن أقصى نفسه بنفسه!
هذا المتمرد العتيق يجري التمرد في دمه منذ المراهقة عندما رفض اتباع الخريطة التي وضعها والداه لمستقبله، وترك المدرسة ليبدأ العمل كصحافي ولم يبلغ من العمر سوى سبعة عشر عاماً. كان تمرده على الأسرة هو بداية الطريق الى التمرد على المؤسسة ككل. في سنة 1954 رفضت دار نشر كبيرة نشر أول عمل روائي له (العودة الى الديار). تدور الرواية حول رئيس تحرير صحيفة في تحولاته الفكرية خلال مسيرته المهنية، من مثقف مخلص لقيم عليا الى عدَمي مفلس أخلاقياً. مضمون لاذع وقد يكون محرجاً لوالديه الشهيرين ذوَي المناصب المهمة محلياً ودولياً، كما رأى الناشر في تبريره للرفض، مما حدا بجان أن يطبع الرواية في دار نشر يسارية خارج العاصمة. لكن شهرته محلياً وعالمياً جاءت عام 1963 بصدور كتابه "تقرير من قرية صينية"، الذي ترجم الى عدة لغات ونوقش مضمونه في أنحاء العالم، وأشادت به شخصيات ثقافية شهيرة، بمن فيهم كلود ليفي شتراوس الذي وصفه بأنه أول عمل أنثروبولوجي يفسر التاريخ الحديث.
عام 1982 سيثير جان ميردال ضجة هائلة باصداره رواية «الطفولة»، التي افتتح بها ثلاثية السيرة الذاتية. هذا الكتاب – ببساطة – يهدم برجين من الأبراج الثقافية للسويد: غونار وآلفا ميردال، والدي جان! كلاهما شهيران محلياً وعالمياً، وكلاهما حائزان على جائزة نوبل، وكلاهما إسمان رئيسيان في النهضة الاجتماعية والحقوقية التي شهدتها السويد في السنوات التالية للحرب العالمية الثانية، ومحل تقدير مجتمعي واسع، ثم يأتي أقرب الناس إليهما، إبنهما المشاكس، ليحطم صورتهما الرسمية البراقة. يصف الكتاب نشأة جان وصراعه مع والديه، وشعوره بأنه لم يكن مرئياً من قبلهما، حيث الأب غونار متنمر يدعو ابنه بالسمين أمام أصدقاء الابن، فيما الأم آلفا، الأخصائية النفسية للأطفال، منافقة وكل ما يهمها من ابنها هو جعله موضوعاً دراسياً لها. كل هذا مكتوب بأسلوب مؤثر كان عاملاً آخر في شعبية الرواية. حاولت الأسرة إيقاف صدور الكتاب واعترضت على محتواه، لكنه تمسك بحقه في قول الحقيقة كما يراها، قائلاً أنهم بامكانهم أن يتذكروا الماضي بطريقتهم ولكنه "يتذكر هذا الماضي بطريقة أكثر تحرراً". قد يكون الأمر كذلك بالفعل، وقد يكون أن صدمة طفولته كانت من القسوة بحيث لم يستطع تجاوزها رغم السنين. لكن الاعتراضات جاءت كذلك من طرف بعض النقاد، ليس لأن الرواية تفتقر الى القوة الفنية وإنما بالضبط بسبب قوتها الفنية التي جعلتها آسرة وذات شعبية واسعة مما يعطيها مصداقية تُلحِق إصابة موجعة بصورة وسمعة الوالدين غونار وآلفا ميردال، لاسيما وإنهما عند صدور الكتاب كانا مسنين وعاجزين عن الدفاع عن نفسيهما. رغم ذلك ما زال الكتاب الى اليوم مقروءاً على نطاق واسع ويعد من عيون الأدب السويدي الحديث.
كانت الحياة بالنسبة إليه عبارة عن قتال من أجل الحقيقة، وسلاحه فيها هو الكلمة، فرغم أنه خلف وراءه أكثر من ثمانين كتاباً إلا إنه ظل حتى آخر أيامه يخشى أن لا يلحق أن يكمل كتابة ما يريد. كان يردد أن أسوأ ما في الموت هو أنه سيحرمه من وقت الكتابة العزيز. وطالما كرر في مقالاته التذكير بأهمية إنجاز مهامنا وإكمال عملنا لأن وقتنا في الحياة محدود، أو على حد وصفه «إنه الوقت القصير المتاح للمرء بين الظلمة والظلمة». وهذا يفسر غزارة إنتاجه وتنوعه، فلم يضيع وقتاً في غير العمل الذي يحب. في مجال الكتب الوثائقية، التي كان يهدف من ورائها الى نقل الصورة الحقيقية الى القارئ السويدي وتحطيم الصورة المنحازة، التنميطية، التي يقدمها الاعلام السائد، تطول قائمة مؤلفاته: حول هيئة الأمم المتحدة، وأفغانستان (كتاب رحلة الى أفغانستان – 1960)، والهند (كتاب الهند تنتظر – 1980)، والمكسيك (كتاب المكسيك – 1995)، وحول كمبوديا، وباكستان، وتركمانستان. وبالاضافة الى كتب المقالات السياسية، أصدر دراسات أدبية عن ستريندبيرغ، وبلزاك، وديكنز، وسيمينون، وسارتر وغيرهم. أضف الى هذا عدداً كبيراً من السيناريوهات والانتاج التلفزيوني، منها سلاسل وثائقية، بالاضافة الى فيلم تلفزيوني ساخر. والنادرة المتداولة في عالم الكتب في السويد هي إن كتب جان ميردال يحبها حتى خصومه، وذلك لقدرته الفائقة في فن الكتابة. ويمكن تلمس هذا هذه الأيام حيث رثاه ومجّده كتاب ومثقفون من مختلف الاتجاهات بمن فيهم خصومه الفكريون، فيما خصص التلفزيون السويدي كل فترة النهار بعد إعلان وفاته لبث كل ما له علاقة به على الرغم من أن هذا التلفزيون، وكل الاعلام السويدي السائد، كان هدفاً معتاداً لهجومه الحاد. كتبت الصحفية بيتي هامرغرين في مدونتها يوم وفاة ميردال أنه «مستحيل أن تمنع نفسك من التأثر بلغته وسعة ثقافته. كانت لغته حادة كالسكين، جبارة، تتسم بالتثقيف الذاتي لكن أيضاً بعصارة شعبية. وحتى نصوصه المجموعة في كتب فهي مكتوبة بذات القوة بحيث أني لم أستطع مقاومتها، بل وإهدائها الى والدي ذي العقلية البورجوازية»
وصف أحد أصدقاء جان ميردال أهميته بالقول أن المرء لا يبالغ مهما تحدث عن أهمية ميردال في تكوين رأي عام جذري، ديمقراطي، مناهض للامبريالية. ومن الصعب تصور مدى الفقر، والانعزال، والتخلف، الذي كانت سترزح فيه الثقافة السويدية، بدون جان ميردال.
تزوج جان أربع مرات لكنه عاش الفترة الأخيرة من حياته وحيداً، صحبته الوحيدة هي مكتبته التي تضم 50 ألف مجلد. في 2019 صدرت آخر رواياته "مهلة أخرى"، واعتبرها آخر كتاب في سلسلة السيرة الذاتية. هو إذن الكتاب الذي يعود فيه الى ذاته، ثم يستريح الى الأبد.