كتبت دائماً بأنني شاعر وكاتب عربي، الآن بمناسبة التطبيع، أودّ الإشارة إلى أنني كاتب وشاعر عراقي. ذلك أني سأتحدث عن «عقال» أجدادي في العراق وأخاطب الناس عن التطبيع. فقد قال علي: «حَدِّثُوا النَّاسَ، بما يَعْرِفُونَ». ذلك أن أجدادي وأعمامي وأخوالي العراقيين من بني تميم، كانوا يعتمرون العقال جيلاً بعد جيل وما زالوا إلى يومنا. وهو العقال واليشماغ الذي يرتديه أبناء عمومتنا وقبائلنا نفسها في الخليج والبحرين، منطوياً على قيم وأخلاقيات وفضائل العربيّ الافتراضية. أقول ذلك لأقول إن رجلاً بأنفة وأخلاق القبائل العريقة التي يزعمها المطبّعون العرب الجدد يأنف من مصافحة خصم لئيم يحتل مقدساته (في الأقل مقدساته العليا) ويعيث بها فساداً، ويلعب بعقله ليسرق أمواله ولعوباً يقترح نفسه صديقاً. عقال عمومتي وأجدادي يتحرك وسيتحرّك غضباً لفعل كهذا. فما الذي يا تُرى جعله ساكناً مطيعاً على رؤوس المطبّعين؟ نعم، إنه عقالنا العربي والعراقي العريق بحذافيره، لكن محمولاً اليوم على ثالثة الأثافي، محترقاً بنار التطبيع. هل من قسوة في قول ذلك، هل من تجنِّ؟ لست على الضد من أجدادي وأخوالي، وسأظل أحتفظ لهم بكبير الاحترام لكن ليس للصاغرين منهم. شعوب المنطقة، ولأسباب عقلية وتاريخية، كانت دائماً ما تتماهى مع قضية عادلة، ودائماً ما برهنت على ذلك ولو بعد حين، رغم القمع الثقيل. شعوب منطقة الخليج ليست بدعاً عن ذلك، خاصة مع إرثها وفضائلها وقيمها المعروفة. أتكلم دوماً عن أجدادي وأبناء عمومتي في العراق والخليج عارفاً بفضائلهم وبسواها.لكن تطبيع الخليج، وعلينا الاعتراف بذلك، مثقل بقيمة رمزية قادمة بالضبط من «رمزية العقال» العربيّ، حقاً وباطلاً. فلطالما صُوِّر العربيّ في آلاف الأدبيات والفوتوغراف والكاريكاتورات الأوروبية والأميركية رجلاً يعتمر العقال، غنيّاً وأشياء أخرى. العربي في اللاوعي الغربي هو رجل بعقال (وبالمناسبة احتفالية التوقيع على معاهدات التطبيع البحرينية والإماراتية في واشنطن غاب عنها خليجياً هذا البعد بشكل متعمد ولنا أن نخمّن السبب). هذا التطبيع ينحط بهذه الرمزية إلى أدنى مستوياتها الآن، لأنه يصوّر العربيّ هذه المرة جاهلاً حتى بأعدائه الحقيقيين، مصوّباً خبط عشواء إلى إيران، وإلى سوريا والعراق، معميّاً بشكل مؤسف... عمىَ أثبت أنه قادر على تبرير نفسه واتهامنا جميعاً بحمل عمائم آيات الله وما شابه.
لكن، ومرة أخرى أتكلم كمواطن عراقي، التطبيع هذا لا يستهدف إيران فحسب، إنما يستهدف إسرائيلياً بلداناً كالعراق وسوريا واليمن. ومن هنا إدانتي القصوى له:
أعطيكم هذه الإشارة: يبعد العراق مثلاً عن البحرين 1006 كم. وهي مسافة ليست ذات شأن بالنسبة إلى قوة مخابراتية وعسكرية كبيرة كإسرائيل ستحط في ضيافة البحرين. هذا سيمنح إسرائيل مكاناً مثالياً جديداً لتخريب العراق على كل صعيد: جوياً وبحرياً واستخباراتياً. ليس العراق في منأى يوماً عن شر إسرائيل رغم وجود مسافة كبيرة بينهما وأراضي بلد أو بلدان أخرى من جهة الشرق. أضف إلى ذلك أنّ حكام شقيقتنا البحرين، الحكّام برهنوا على موقف طائفي متطرف ضد إيران وكل بلد ذي غالبية شيعية كالعراق.
كم من مكان سيصير متاحاً لإسرائيل لتخريب العراق: أميركا في العراق نفسه وبإحداثيات إسرائيلية، كردستان العراق في شماله، والآن البحرين جنوباً. هذا كثير.
ثم إن هناك الفكرة التي يُراد إشاعتها بين الجمهور العربي وهو أن كل بلد ذي سيادة من حقه أن يفعل إطلاقاً ما يشاء. لو نظر كل عربي إلى مسألة التطبيع مع إسرائيل من وجهة نظر الحيّ والحارة التي يسكنها، فإن الأمر سيبدو أن العالم الكبير وعلاقاته قد تقلّص إلى حارةٍ وحيّ، بينما هو ليس كذلك، ولاكتشف بعد فوات الأوان كم هي ضيقة رؤيته ومأزومة. إذا لم نقل شيئاً آخر. هذا هو التطبيع من خرم الإبرة.
تطبيع الخليج مثقل بقيمة رمزية قادمة بالضبط من «رمزية العقال» العربي


التطبيع مع حكام إسرائيل خيانة؟ هاكم هذه القصة التأريخية التي كرّرها إعلام الخليج يوم ساءت علاقته بقطر:
كان «الملك صالح إسماعيل الأيوبي، يحكم دمشق وفلسطين، فطمع في ضم مصر الى مملكته، وكانت مصر يحكمها ابن أخيه الملك صالح أيوب زوجته شجرة الدر. فجهّز جيشاً كبيراً، فطلب الملك صالح إسماعيل من بعض ملوك الممالك الصليبية مساعدته على حرب ابن أخيه، فاشترطوا عليه التنازل لهم عن القدس مقابل المساعدة، فوافق على ذلك وأعطاهم فوق ذلك مدينة عسقلان، ودارت معركة شرسة بين الجيشين، وموقع المعركة كان عند مدينة غزة. وفي نهاية المعركة انتصر الملك صالح أيوب على جيش الملك إسماعيل والجيوش الصليبية. أما الجيوش الصليبية ففرّت هاربة إلى مدنها مخلفة وراءها ثلاثين ألف قتيل. أما الملك صالح فواصل تقدمه الى مدينة القدس وحرّرها، وظلت القدس عربية حتى احتلت مرة أخرى من قبل إسرائيل». وتخلص الصحافة إلى القول: «وهذه الخيانة تمت بعد موت صلاح الدين خلال أشهر قليلة من وفاته، هذا هو الجانب المظلم في تاريخ أمتنا العربية».
نُشرت القصة عن أشهر الخيانات في التأريخ العربي الإسلامي، فما عدا مما بدا؟ عناصر القصة هذه تتطابق مع تطبيع الإمارات والبحرين اللتين لتطبيعهما حسنة واحدة: أنه كشَفَ الأقنعة للجمهور العربيّ الذي كان بعضه ساهياً، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم.
قال النبي محمد بن عبد الله: «ألا شاهت الوجوه». وأحسب أن الفعل شاهت ها هنا يبعد قليلاً عن تشوّهت إلى دلالة الانمساخ.

* كاتب وتشكيلي عراقي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا