إنها سنة بيتهوفن. فهو مولود عام 1770 والعالم يستعيد ذكرى ربع ألفية على ولادته. الإصدارات بالمئات وكذلك إعادات الإصدار (تسجيلات قديمة يُعاد طبعها بحلّة جديدة مع معالجة للصوت في حالات معيّنة)، المهرجانات الكبيرة والصغيرة كرّمته، أو كانت ستكرّمه وألغِيَت للأسباب الصحية العالمية المعروفة. الموسيقيون، العمالقة والنجوم، المشهورون والمغمورون، الأفراد والمجموعات والأوركسترات، كلهم فتحوا أرشيف المدوّنات الكلاسيكية وتوجهوا مباشرةً إلى حرف «الباء»، وتحديداً إلى «الباء الألماني الثاني» (بعد باخ وقبل برامز/ بالترتيب الزمني وكذلك الأبجدي)، ومنه إلى الفئة التي تعنيهم (وهنا الخيارات كلّها متاحة ودسمة) وبعد ذلك إلى استوديوهات التسجيل و/أو إلى قاعات الحفلات ليشاركوا في الاحتفال التكريمي. الإحاطة بهذا النشاط البيتهوفينيّ، ولو العابرة، غير ممكنة وغير مطلوبة أساساً هنا أو في العموم.
يستعيد العالم هذه السنة ذكرى ربع ألفية على ولادته

بالتالي، لا بدّ من اختيار المشاريع المميّزة شكلاً أو مضموناً أو الاثنين معاً، للإضاءة عليها خلال العام الحافل فوق العادة، رغم الحجز والحظر والخوف والحداد. قريباً، ننتظر «مولوداً» من العيار الثقيل، تم تأخير ولادته أربع مرّات تفادياً لـ«حرقه» في ظلّ القيود المفروضة على حركة الترويج. لكنه في النهاية سيرى النور (الموعد غير النهائي في 12 حزيران/ يونيو المقبل) وستكون لنا معه وقفة موسّعة. لكن اليوم، نتناول مشروعاً مميزاً يحمل توقيع عازفة البيانو السوفياتية المولد، الأوكرانية الأصل، فالنتينا ليسيتسا، التي تعيش اليوم بين روسيا وإيطاليا، علماً أنها تحمل الجنسية الأميركية أيضاً. مشروع ليسيتسا هو في جملة واحدة: كل سوناتات بيتهوفن على يوتيوب (بالصوت والصورة). منذ أن اقتحم عملاق البيانو العتيق، أرتور شنابل (1882 ـــ 1951) هذه الترسانة من السوناتات (عددها 32) وقدّم أول تسجيل كامل لها في التاريخ (وهو كان ولا يزال مرجعاً لجميع عازفي البيانو في العالم) في النصف الأول من ثلاثينيات القرن الماضي، سار على منواله، مرّة أو أكثر، العديد من رموز البيانو الكلاسيكي/ الرومنطيقي (الجرمانيون بشكل أساسي) في القرن العشرين والعقدين الأخيرين: فيلهم كامبف (الملك مرتين: مونو وستيريو!)، فيلهلم باكهاوس (مكرهٌ في النازية، بطلٌ، حتى الرمق الأخير، في بيتهوفن)، ألفرد برندل (العميد المعتزِل)، بول بادورا-سكودا (الثري بآلاته ـــ رحل أخيراً)، فريدريش غولدا (مسبِّع الكارات)، كلاوديو آراو (الآتي من «كوكب آخر» ـــ تشيلي)، إميل غيللز (سوفياتي ـــ يا للخسارة! تسجيله لم يكتمل بسبب رحيله المفاجئ)… هناك أيضاً التسجيلات التي طبعت الديسكوغرافيا الخاصة بهذا العمل، مثل تلك التي أنجزها ريتشارد غود (أميركي) وسيتفن كوفاسيفيتش (أميركي/كرواتي) وماوريزيو بوليني (إيطالي)، وتلك التي صدرت في مناسبة ذكرى بيتهوفن، منذ نهاية العام الفائت، وهي أربعة لغاية الآن: إيغور ليفيت (روسي/ألماني ـــ تسجيل جيد جيداً)، فازيل ساي (تركي ـــ تسجيل جيد، وممتاز في جزء منه، مثل السوناتة رقم 21، المرعبة معه!) وقسطنطين ليفشيتز (روسي ـــ تسجيل رديء بمعظمه) وجوناثان بيس (أميركي ـــ تسجيل جيد جداً). طبعاً، هناك التسجيلات الجزئية وهي بالمئات تاريخياً وبالعشرات هذه السنة. بالمناسبة، كل هذه المقاربات (تسجيل السوناتات الكاملة)، تُسقِط سوناتات ثلاثاً، غير مدرجة في التعداد من 1 إلى 32، وهي أولى تجارب بيتهوفن في هذه الفئة (غيللز مثلاً سجّل اثنتين منها) وهي تحمل ترقيماً خارج التبويب الأساسي لأعمال المؤلف الألماني، أي المعروف بـ«أعمال من دون رقم مصنَّف» (WoO 47 لمن يودّ الاطلاع عليها).

تعدّ فالنتينا ليسيتسا اليوم من أبرز الوجوه في جيلها ومهنتها

هنا نعود إلى صلب الموضوع: فالنتينا ليسيتسا قررت تسجيل هذا العمل كاملاً، شأنها شأن عدد من زملائها، لكن بدلاً من إصداره على أقراص مدمجة ومنصات الستريمينغ، ارتأت نشره مصوراً على يوتيوب، مجّاناً طبعاً. الخطوة غير مستغربة من فنانة ولجت إلى الجمهور من نافذة الإنترنت، ويوتيوب تحديداً، متخطّيةً بذلك المسار التقليدي: أمسيات محلية، مسابقة محلية ثم عالمية، مشاركات في مهرجانات متوسطة، في انتظار اتصال من منتج وناشر عريق. اتصالٌ قد لا يأتي في زمن وفرة الموسيقيين و«تراجع الطلب» على الموسيقى غير الاستهلاكية.
فالنتينا ليسيتسا (1973) تعدّ اليوم من أبرز الوجوه في جيلها ومهنتها. أبدت موهبةً موسيقية غير عادية منذ طفولتها، فالتحقت بالمعهد الموسيقي وحلمت أن تصبح… لاعبة شطرنج! على مقاعد الدراسة الموسيقية، التقت بزميلٍ سيصبح شريكها في الحياة، بشقّيها العائلي والمهني. إنه ألكسي كوزنتسوف، عازف البيانو الذي سيبقى مغموراً مظلّلاً بهالة زوجته الموهوبة، التي تدين له بأخذ البيانو على محمل الجد. بعد انتشار اسمها في الفضاء الإلكتروني، وبعد جولات حيّة وعدة تسجيلات عند ناشرين متواضعي السمعة، وصلت إلى رأس هرم، أي الناشر الألماني «دويتشيه غراموفون»، عبر مشاركتها في تسجيل لسوناتات الكمان والبيانو للمؤلف الأميركي تشارلز آيفز، مع نجمة مكرّسة، هيلاري هان (كمان). وبفعل الوحدة بين الناشر المذكور وDecca (الاسم العريق في هذا المجال أيضاً)، باتت ليسيتسا الاسم الأول عند الأخير في فئة جيل الشباب من عازفي البيانو، وتوالت الإصدارات (الرومنطيقية بشكل شبه حصري): شوبان، شومان، تشايكوفسكي (مشروع ضخم وفريد من نوعه، لتسجيل كل ما كتبه المؤلف الروسي للبيانو المنفرد)، سكريابين، رخمانينوف، لِيسْت، والقليل من بيتهوفن. في الواقع، ليس كل ما قدّمته يرتقي إلى مستوى الامتياز، خاصةً أن الريبرتوار الذي اختارت المنافسة فيه متخمٌ بإبداعات (وأعاجيب!) العمالقة الراحلين وبعض الأحياء من خوارق الإحساس والتقنيات. لكنها تبقى اسماً كبيراً في عالم البيانو اليوم، لا شك، ومشروعها الجديد يستوجب المتابعة من الجمهور الجدّي، حتى لو أتت النتيجة مخيبة جزئياً، والخيبة سببها أحياناً التوقعات العالية التي يتطلع إليها المرء أمام موسيقي من هذا الطراز.
التسجيل الذي يصلنا عبر يوتيوب من ليسيتسا هو ذو جودة عالية في الأساس


إذاً، المشروع بحدّ ذاته مميز. غير مسبوق. له حسناته وسيئاته. ضخامته آتية من أن منفذه هو شخص واحد. فالمشروع المشابه الذي تكلمنا عنه قبل أسبوع، أي كل باخ مصوراً على يوتيوب، يعمل فيه عشرات الموسيقيين. أما هنا، فلدينا عازفة بيانو أمام عشرات آلات الرموز الموسيقية المنثورة على أفقٍ لامنتاهٍ من السطور العشرة (أي السلّم الموسيقي الخماسي الأسطر، وفي حالة البيانو هما سلّمان، واحد لكل يد)، خطتها يد إلهٍ لا تعرف الرحمة تجاه من سيفني عمره وجسده ليفك طلاسمها المخفية بعد السيطرة التقنية عليها (اسألوا ألفرد برندل!). سبق أن نشرت فالنتينا (أو نُشِر لها) سوناتات بيانو لبيتهوفن (من تسجيلات حيّة)، لكن مع حلول الـ2020، صفّرت عدّادها، وبدأت بمهاجمة هذا العمل من جديد، بالترتيب الرقمي التصاعدي (باستثناء بعض الحالات) ثم بتنزيلها على يوتيوب مطلع السنة، بوتيرة غير ثابتة سببها أحياناً حجم العمل وصعوبته، وكذلك ما يسبقه وما يليه. فمثلاً، هذا الأسبوع نشرت السوناتات رقم 18 و19 و20، على اعتبار أن الأولى متطلبة ومتوسطة الحجم، في حين أن التاليتَين من الحجم الصغير (الأقصر بين شقيقاتها)، بعدما انقطعت قليلاً عن التفاعل، الأرجح بسبب كورونا، علماً أنها تعيش في موسكو حالياً وتستخدم أحد أهم وأقدم الاستوديوهات في روسيا والعالم (راجع الكادر في الصفحة). لكن، بهذه الوتيرة، ستملأ السوناتات الـ32 السنة بكامل أشهرها. فها قد بلغت ثلثي المسافة من المشروع والسنة انتصفت تقريباً، وما التقدّم الطفيف في عدد السوناتات المنشروة، نسبةً إلى الفترة الزمنية، سوى تأمين احتياطٍ من الوقت للسوناتات الأربع الأخيرة… فهذه وحدها مشروع ضمن المشروع، وتبدأ بالرقم الـ29 المسماة Hammerklavier (أي، ببساطة: «بيانو»)… وهذه وحدها مشروع ضمن المشروع ضمن المشروع!



الاستوديو والصوت
الاستماع إلى الموسيقى بواسطة يوتيوب، أي عملياً على الهاتف أو اللابتوب في أحسن الأحوال، إلّا إذا كنا مجهزين بتقنيات أفضل بقليل (مشاهدة يوتيوب على التلفزيون الذكي مثلاً)، هو أمرٌ مجحف بحق الموسيقى وصنّاعها وبحق متلقّيها. أما في حال الموسيقى الكلاسيكية ومعظم تسجيلات الجاز وبعض التجارب المشغولة، فهي خطأ فادح يرتكبه المرء بحق متعته وجريمة «بيضاء» بحق المؤلف والعمل. لكن أحياناً، تشكّل مدخلاً سهلاً، لناحية التلقي والاطلاع العام كما لناحية الكلفة، المتدنية جداً نسبةً إلى الديسكات الأصلية والمعدّات المحترمة التي «تترجم» الأخيرة إلى صوت. فالصورة هي لبّ المسألة هنا. عندما نرى كيف تُعزَف الـAppassionata (سوناتة البيانو رقم 23 لبيتهوفن) ستذهلنا، علماً أننا «لم نسمعها». في مرحلة أولى، هذا جيّد. وهذا هو، ربما، سبب لجوء فالنتينا ليسيتسا لخيار مماثل. فمشروعها سيقرّب الجمهور من سوناتات بيتهوفن ومن الكلاسيك عموماً، ما قد يحمّس البعض على متابعة أمسيات من هذا النوع، وهذه أيضاً خطوة مهمة في الوصول إلى علاقة سليمة، جميلة، ممتعة، ومفيدة مع الموسيقى. لكن، ما يجب إضافته في هذا السياق، هو أن التسجيل الذي يصلنا عبر يوتيوب من ليسيتسا هو ذو جودة عالية في الأساس، لكن الرداءة تكمن في الوسيط. فالعازفة الشقراء تستخدم أحد أقدم الاستوديوهات وأضخمها في العالم. إنه الـ«موسفيلم» (موسكو فيلم)، الذي تأسس عام 1920 (في عهد؟) وصُنعت فيه روائع السينما، لكبار المخرجين السوفيات (تاركوفسكي وآيزنشتاين) وغيرهم. هذا الاستوديو يتيح نتيجة محترمة على مستوى الصوت (أما الصورة فتحصيل حاصل)، ولهذا، فإن المشروع يمكن متابعته، لمن يمكنه الاستغناء عن الصورة، عبر الستريمينغ الذي ـــ إن تأمنت المعدات الصوتية التقليدية، مضافٌ إليها القطعة الضرورية (في هذه الحال فقط!) الجديدة، أي الستريمر (streamer ـــ العديد من الأسماء الكبيرة في الصوتيات طرحت نسخها الأولى منه) ـــ يؤمِّن نوعية توازي تماماً، علمياً، الأقراص المدمجة… أما الخسارة الأخرى، التي لا اسم لها ولا تعريف، لدى الانتقال إلى هذا النمط من استهلاك الموسيقى، فلا ولن يكون لها «حل رقمي»، لحسن حظ (نا) البعض وسوء حظ البعض الآخر!