حين نفكّر كم أخذت القدس مساحة من فن كمال بلاطة (1942 ــ 2019) وانشغالاته التوثيقية والفكريّة، فستكون تلك المساحة أرحب بكثير من الوقت الذي أمضاه الفنان الفلسطيني في المدينة التي وُلد فيها، في حيّ باب السلسلة، قبل النكبة بست سنوات. لكن الإقامة في القدس لا تقاس بالوقت وحده، خصوصاً بالنسبة إلى بلاطة الذي قادته عيناه إلى الجغرافيات: الإضاءة التي تسلّلت إليه من باب مسجد قبّة الصخرة، أو في الأيقونات التي رآها دائماً داخل جدران كنائس المدينة ومحترفاتها، بالاضافة إلى الأحياء التي رسمها حين تتلمذ على يد خليل الحلبي في القدس، وكانت علاقته الأولى مع أشكال هندسية عادت لتحتل لوحته أخيراً. ولعلّ ندوته الأخيرة في «دار النمر للفن والثقافة» في بيروت، تشكّل عزاءً لكل من حضرها. ليس بسبب اللقاء مع الفنان فحسب، بل لأن محاضرة «سفر بين الشفافيات» التي قدّمها في حزيران (يونيو) الماضي، كانت أشبه بقراءة مكثّفة لخلاصة تجربة فنية ولغويّة تبلغ خمسة عقود. تناهت هذه التجربة واستقرّت في مجموعته البصرية «بلقيس» (2013)، التي تضمّنت معظم المرجعيات والحقول التي خاضها الفنان خلال حياة تنقّل بها بين المنافي. عرفنا وقتها، لمَ لا يشبه هذا الفنان نرسيس. رغم أنه مثله يطلّ أحياناً على بحيرة لوحته ويكتب عنها، مثلما يكتب مقالات نقديّة عن غيره من الفنانين الحديثين والمعاصرين، إلا أنه لم يتمكّن من رؤية وجهه فيها. بالطبع ستطالعه، المرجعيات الكثيرة التي اتسعت لها لوحته؛ الفنون الغربية الحديثة وجماليات المساجد الإسلامية والبيزنطية، والأدب والفلسفة والأديان التوحيديّة، والمؤلفات الفكرية والشعر والموسيقى، والعلوم الرياضية لفيبوناتشي وابن الهيثم الذي استحضره في معرضه الفردي «تحية إلى ابن الهيثم» (2009). هكذا، وسّع بلاطة مرجعيات الفن العربي المعاصر والحديث، داعياً الأرقام والحروف والخطوط والحسابات الهندسية إلى سطح لوحته مهما كانت بساطتها وإقلالها أحياناً.
«ثورة/ ثروة» (560 × 735 ملم ـ 1978)‎

بعدما أنهى دراسته في إيطاليا خلال الستينيات، جاء إلى بيروت التي علق فيها بعد النكسة. كانت بيروت بداية سنوات المنفى الطويلة. في واحدة من مقابلاته، أسرّ إلى أن العامل الأساسي الذي كان يدفعه إلى اختيار مكان دون سواه، من تلك المدن والبلدان التي عاش فيها (المغرب، إيطاليا، فرنسا، واشنطن، برلين...) هو الضوء أو أي عنصر قد يجد مرادفاً في لوحاته. في بلدة منتون الفرنسية الساحليّة، كانت شفافياتها المائية نافذته إلى إيطاليا، ومنها إلى بيروت وحيفا. وقبل منتون، كانت واشنطن، معبره إلى الجزء الجنوبي من أميركا وشمسها التي ألهمت «مدرسة واشنطن للضوء» الفنية. أعمال روّاد تلك المدرسة بخطوطها وهندستها وألوانها الساطعة أخذته إلى التجريدية. طوال عقدين عاشهما في أميركا منذ السبعينيات، ظلّ اسم بلاطة حاضراً في العالم العربي حيث رسم الملصقات السياسية (خصوصاً فترة اجتياح بيروت)، وصمّم أغلفة المجلات (منها مجلّة «مواقف»)، ورسومات ديوان «أحمد العربي» لمحمود درويش، قبل أن يزور بيروت مجدداً لإدارة «دار الفتى العربي»، ثم يؤسس مع هشام شرابي، وأدونيس «المؤسسة العربية الأميركية الثقافية» التي كانت قبلة للفنانين والكتاب والشعراء العرب والفلسطينيين. تجربة واشنطن الغنية شكّلت انتقاله إلى التجريدية مثل عدد من فناني المنفى الفلسطينيين، أبرزهم سامية حلبي، وساري خوري في أميركا، وفلاديمير تماري في اليابان. هكذا بدأ رحلته في الحروفية العربية بالاعتماد على الخط الكوفي التربيعي. أدخل إلى لوحته الكلام من المراجع المسيحية والإسلامية، والشعر العربي الحديث، لكن ضمن سياق شكلاني وتصميمي ملوّن، حمل تأثيرات من الفن الغربي وتجاربه الحديثة. اختفى الحرف، وظلّ المربّع والخطوط، والتجريد الهندسي مجرّد ذريعة للتجريب اللوني، وللإبحار في الضوء والشفافيات اللونية والمساحات الهندسية.
محاضرته البيروتية قبل أشهر كانت أشبه بقراءة مكثّفة لخلاصة تجربة فنية ولغويّة

وإذا كان المربّع يختزل بحثه الطويل عن الأرض، فإنه يشكّل قاسماً مشتركاً بين الجماليات البيزنطية والإسلاميّة (الأرابيسك)، خصوصاً الحركة المتمثّلة بدوران المربعين داخل الدائرة (تمثل السماء). هكذا، كانت الثيمات والأفكار هي التي تتحكّم بمعارضه من خلال متواليات من اللوحات مثل «سرّة الأرض» (1998) «وكان النور» (2015) الذي استلهمه من أيام الخلق السبعة، و«بلقيس» المستوحاة من شعريّة عبور بلقيس على الزجاج في قصر سليمان (كما وردت القصّة في القرآن). تعمّق بلاطة في الفن الإسلامي في الفترة التي قضاها بين قصور المغرب وجنوب إسبانيا ومساجدهما، حيث أجرى أبحاثاً ميدانية نتجت منها ورقة بحثية بعنوان «التفكير البصري والذاكرة العربيّة الدلاليّة»، تتبع العلاقة بين الأرابيسك الإسلامي وقواعد اللغة العربيّة، وقد نشرت في مجلّة صادرة عن «متحف قصر الحمراء في غرناطة». بالنسبة إلى بلاطة، فإن الفن الإسلامي هو الذي قاده إلى الاهتمام بالعلاقة بين الجانبين البصري واللغوي، ثمّ إلى النبش في التاريخ الفلسطيني. وربّما في لوحته فقط عثر على الأرض، أو في كتبه التي واجهت الاستلاب الإسرائيلي للفن الفلسطيني وتاريخه منها «استحضار المكان: دراسات في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر» (2000)، و«شهود مخلصون: الأطفال الفلسطينيون يعيدون خلق عالمهم»، و«الانتماء والعولمة: مقالات نقدية في الفن والثقافة المعاصرة» (2008) و«الفن الفلسطيني ــ من 1850 إلى الحاضر» (2009) الذي عاد فيه إلى ما قبل تاريخ النكبة، مستفيضاً في التوثيق والتعمّق بمحطات الفن التشكيلي الفلسطيني وتجاربه من الفن الأيقوني، وصولاً إلى التجارب المعاصرة. كانت لدى بلاطة مشاريع أخرى يعمل عليها بالطبع، قبل رحيله المفاجئ في برلين أوّل من أمس.

https://www.palestineposterproject.org/artist/kamal-boullata