لم يفصل سعادة، فصلاً تاماً، بين الأممية والقومية، أو الكونية والمحليّة، كفكرتين متناقضتين كلياً، أو كمجالين معزولين، أحدهما عن الآخر، بل كان، على الرغم من دعوته إلى القومية السورية ـ والقومية لبعضهم تتناقض مع الأممية ـ يؤكد على جدلية العلاقة بين الأممية والقومية، ذاهباً إلى القول بأن سورية، بلاده، هي جزء من هذا العالم، متسائلاً في كتاب «نشوء الأمم»: «هل يُصبح العالم كله أمة واحدة؟»، مجيباً: «من يدري؟»، تاركاً لعوامل التفاعل بين الشعوب تفعل فعلها في هذا الميدان. هذه الجدلية تظهر جلية في مؤلفات سعادة، خصوصاً في كتابه إلى شارل مالك سنة 1938.تكمن أهمية هذا الكتاب في أنه:
أ- أول نصّ فلسفي إبداعي بالعربية في العصر الحديث، نص يؤسّس للقول الفلسفي بالعربية، من جهة ويُحدّد شروط الاستقلال الفلسفي الصحيح، من جهة أخرى، بعد محاولات سابقة، أشبه ما تكون بالإرهاصات منها بالمحاولات الجادة، عرفها خطاب التنوير العربي، في مرحلة ما يُسمّى بـ «عصر النهضة» (1875- 1939). لقد وجدت في هذا النص البدايات الفلسفية الجادة في عالم اللغة العربية في العصر الحديث، إذ لم يسبق لي أن قرأت نصاً، باللغة العربية، يشبه هذا النصّ إن لجهة القضايا التي تناولها بالدرس، أو لجهة اللغة الجديدة التي صيغ فيها، أو لجهة المصطلحات التي استنبطها والمفردات التي استعملها، أو للمنهج الذي استخدمه للتأسيس لقول فلسفي جديد بالعربية ونظرة فلسفية جديدة إلى الحياة والكون والفن، بالعربية أيضاً.
ب- يرسم الخطاب/ النص صورة المشهد الفلسفي في المشرق العربي في أواخر الثلاثينات من القرن العشرين، فإذا هي صورة قاتمة انحطّ فيها التفكير الفلسفي جراء قرون الانحطاط المتطاولة والفتوحات الأجنبية المتعاقبة التي تلت سقوط الدولة السورية، حقبة العهد العباسي، إلى درجة «ابتذل» فيها لفظ الفلسفة وأصبح من تعابير الإدراك العادي السطحي..
ج- يطرح الخطاب تصوراً جديداً لمفهوم الفلسفة ودورها، تصوراً لم تعرفه هذه البلاد في تاريخها البعيد والقريب، فيميز، على هذا الصعيد، بين التفكير الفلسفي والتفكير العادي، من جهة وبين الفيلسوف وناقل الفلسفة، من جهة ثانية، مبرزاً دور الفيلسوف الذي يدرك، قبل غيره، نفسية شعبه الحقيقية، فيكشف هو عن هذه النفسية الأصلية التي تشي، برأيه، بكل حق وكل خير وكل جمال في العالم.
د- يعيّن النص شروط تطور الفكر الفلسفي من الحيّز القومي الخاص إلى الفضاء العالمي العام، أو ما يُعرف، اليوم، بـ «جدلية الكونية والخصوصية»، فيرى أن جودة الخطاب الفلسفي ورغبة الفيلسوف في أن يكون عالمياً، عنصران لا يحددان، مجتمعين أو منفصلين، هذه السيرورة (processus) من الخصوصية إلى الكونية، ومن القومية إلى العالمية، كما يزعم عدد كبير من المشتغلين في الفكر والفلسفة. إن ما يحدّد هذه السيرورة من الخصوصية إلى الكونية، على الصعيد الفلسفي، هو ما يسميها سعادة بـ«فاعلية الفكر» التي تفرض نفسها واتجاهها على النطاق العالمي أو على جزء منه.
أخذ على مالك محاولته «العقيمة» في مخاطبة الشرق الأدنى كله دفعة واحدة


ه- يكشف النص الأهمية التي أولاها سعادة للفلسفة والتفكير الفلسفي والاستقلال الفلسفي. هذه الناحية من الخطاب أسّست لنظرية الاستقلال الفلسفي، في الفكر العربي المعاصر، والتي أبدع ناصيف نصّار في شرحها في كتابه الطليعي «طريق الاستقلال الفلسفي» (1977). هذا النص، إذاً، عبارة عن كتاب وجهه أنطون سعادة إلى شارل مالك العائد حديثاً، دكتوراً في الفلسفة، من الولايات المتحدة الأميركية في أوائل سنة 1937. أما المناسبة فتعود إلى خطاب بالإنكليزية في «معنى الفلسفة» ألقاه الدكتور مالك في طلاب الكلية المذكورة وأهدى نسخة مطبوعة منه إلى سعادة. وكان سعادة ومالك قد تعارفا منذ عودة الأخير إلى بيروت والتحاقه مدرساً للفلسفة في الجامعة الأميركية التي كان سبقه إليها سعادة مدرساً للغة الألمانية، كمادة اختيارية، وناشطاً في أوساط الطلبة والمدرسين، بدءاً من العام الدراسي 1932-1933.
يطرح النص عدداً من القضايا الفكرية الأساسية أهمها:
1. القضية الأولى تدور حول أهمية الموضوع الذي تناوله الدكتور مالك في خطابه، ألا وهو «معنى الفلسفة»، ما دفع سعادة، فور تسلمه نسخة منه، إلى قطع مطالعته «جمهورية» أفلاطون، على ما ذكر في كتابه إلى مالك، ليتفرغ إلى قراءته.
2. القضية الثانية تتناول ما يسميها سعادة بـ«فاعلية الفكر»: متى يصبح الفكر عالمياً؟ وكيف؟ وهل العالمية تتحقق بمجرد أن يخاطب مفكّر العالم كله بلغة واحدة سائدة، أم أن «العالمية» ترتبط بـ «فاعلية الفكر»؟
في كلامه عن شرط «الفاعلية»، يأخذ سعادة على مالك ما أسماها محاولته «العقيمة» في مخاطبة الشرق الأدنى كله دفعة واحدة، ظناً منه أن مخاطبة إقليم كبير مترامي الأطراف، متعدّد الثقافات، كالشرق الأدنى، تجعل من مالك، أو من غيره من الطامحين إلى العالمية، مفكراً عالمياً، فينسى هو وأمثاله أن الشرق الأدنى، في حقيقته الاجتماعية وتركيبه الأتنولوجي، ليس مجموعاً ثقافياً واحداً يمكن أن يسمع خطابه ويتأثر به، بل هو مجموعات ثقافية متنوعة وأحياناً متصادمة!
3- القضية الثالثة تتمحور حول ماهية الفلسفة وضرورتها والحاجة إليها في بداية حياتنا القومية.
يُميّز سعادة، هنا، بين ما يُسمّيه: الإدراك العالي والإدراك العادي، والفيلسوف وناقل الفلسفة، كما يُميّز بين الفلاسفة كمبدعين وبين المرامي النفسية الأخيرة التي يُنشدها هؤلاء المبدعون في أفكارهم وفلسفاتهم.
وعليه، يصبح الناظر في الحقائق النفسية الأخيرة فيلسوفاً، في حين يبقى المأخوذ بالأسماء الفلسفية الكبيرة، ناقلاً للفلسفة. ولذلك يخترق العقل الفلسفي الحواجز، بين مختلف الثقافات والأمم، فيمتدّ إلى ما وراء حدود الأمة، ويفرض نفسه واتجاهه على النطاق الذي يشمله، بفعله وفاعليته، من غير أن يتصوره، مسبقاً، كنطاق أو إقليم محدّد، أو يخاطبه مستهدفاً إياه، تحديداً.
* أستاذ جامعي