لقد عمل الشاعر الأميركي والت ويتمان (1819 - 1892) على كسر حدود الأشكال الشعرية المتداولة حتى ذلك الحين بينما كان شعره يقترب من النثر رويداً رويداً. ضرب بكل الأساليب الشعرية القديمة عرض الحائط، فقد تمكّن من تحطيم القوالب الأوروبية التي كان يصب فيها الشعر الأميركي عنوة، مما جعله مجرّد تقليد باهت يخلو من عناصر الأصالة التي تنبع من تربة الوطن نفسه. كما استخدم قاموساً ضخماً من المفردات والصور والرموز غير المعتادة في الشعر، بما في ذلك الأوراق المتعفنة، وخصلات من القش، الأنقاض والأزبال. كما كتب بشكل واضح لا لبس فيه عن الموت والنشاط الجنسي، بما في ذلك الدعارة. غالباً ما يوصف بأنه أبو الشعر الحر، على الرغم من أنه لم يخترع ذلك. كتب ويتمان في مقدمه طبعة عام 1855 من «أوراق العشب»: «إن برهان الشاعر الحقيقي هو أن تمتصه بلاده بمودة كلما استوعبها هو». وأعرب عن اعتقاده بوجود علاقة حيوية وتكافلية بين الشاعر والمجتمع. وقد تم التأكيد على هذا الاتصال وخاصة في القصيدة الشهيرة «أغنية نفسي» باستخدام ضمير الشخص الأول المتكلم. وكان أول من استعاض بقوة، ضمن روح الملحمة الأميركية، الاستخدام التاريخي للبطل المتعالي الخارق بأبطال من البشر العاديين. وأثناء عمله في سكرتارية المكتب الهندي في وزارة الداخلية الأميركية، صدر له ديوان «أوراق العشب»، فقام الوزير بطرده على أساس أنه عمل غير أخلاقي. لكنّ الكتّاب والمثقفين لم يتحملوا هذه الإهانة التي لحقت بالشاعر الكبير، فكتب وليام أوكونور كتاب «الشاعر الشيخ الصالح» عام 1866. واستجابت «أوراق العشب» أيضاً للتأثير الذي أحدثه التحضر الاجتماعي في الولايات المتحدة الذي طال الجماهير العريضة. في عام 1873، أُصيب بنوبة شلل. وأثّر ذلك على كتاباته، وغيّر المرض من فكره إلى حدّ ما. لقد تحول أسلوبه الواقعي المباشر إلى صور التلميح والتجسيد الفني المركب. تبدلت فلسفته التي تعتبر الكون مادة واحدة، لكي تصبح مثالية روحانية يغلب عليها التصوف. تغيرت آراؤه السياسية من الفردية إلى القومية، ثم إلى العالمية. هبطت درجة حماسته المطلقة للحرية الفردية إلى تأبيد مطلق للنظام الذي يتحرك المجتمع في إطاره. هاجم كل أنواع التعصب والفاشية والديكتاتورية، مؤكداً أن لا ازدهار لأمة إلا بترسيخ الديمقراطية فيها. لقد آمن بأن الحرية الفردية لن تجد متنفساً لها إلا في الحب، كما تتمثل الحرية الاجتماعية في الديمقراطية، وأن الحب والديمقراطية وجهان لعملة واحدة هي المجتمع الإنساني كما يجب أن يكون. كانت عينه على الحياة الأميركية في حين تتبعت عينه الأخرى الحياة في كل مكان. كان يرى أن الشاعر هو ضمير أمته، من ثم لا يمكنه النظر خارج حدودها لاستلهام الوحي، وأن الطريق إلى العالمية الإنسانية لا بد أن يمر بالإقليمية المحلية. يعد والت ويتمان رائداً للشعر الأميركي، كما يعد مارك توين رائداً للرواية الأميركية، ويوجين أونيل رائداً للمسرح الأميركي. وهكذا ترى عزيزي القارئ كيف أنّ بعض معطيات الشاعر والت ويتمان الشخصية والشعرية، يلفها الغموض وتحيطها الخرافة. لكن الخرافة الأكبر في كل هذا إنما كانت تلك المتعلقة بحضوره في الثقافة العربية وتمهيده السبيل لثورة الشعر العربي الحديث كما حصل على أيدي الشعراء العراقيين الرواد من أمثال بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وغيرهما. ففي نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كما يقال، كان العالم العربي يعيش فترة تحوّل مهمة في مختلف بناه الثقافية، وكان الأدب العربي يشهد محاولات جادة لإخراج الشعر من أسر الصناعة والتقليد الذي كبله طويلاً.
الريحاني وجبران على خطى ويتمان
بحكم وجود أمين الريحاني وجبران خليل جبران في الولايات المتحدة وإتقان اللغة الإنكليزية، توفر لهما الاطلاع على أعمال ويتمان، ما فتح المجال أمام الريحاني ومن بعده جبران لابتكار نمط شعري جديد أسماه الريحاني الشعر الحرّ، وأطلق عليه النقاد لاحقاً اسم الشعر المنثور أو قصيدة النثر. وقد جمع الريحاني نصوصه التي كتبها متأثراً بويتمان في كتابه «هتاف الأودية» الذي يعده النقاد أول ديوان في الشعر المنثور في الأدب العربي، وتبع جبران خليل جبران الريحاني في تأثره بويتمان وسار على نهجه. والغريب هو توفر عدد كبير من الباحثين الذين يروّجون لمثل هاته الخرافات وتصديقها من دون الإتيان بدليل يدعم تلك المزاعم. ورغم كل الجهد المبذول في استيراد والت ويتمان عبر أبوته المزعومة للشعر العربي الحر وكذلك لقصيدة النثر العربية، ورغم صعوبات استنباته في مجال المقارنات النقدية والاصطلاحية (شعر حر شعر مرسل شعر منثور قصيدة النثر شعر غير موزون وغير مقفى إلخ) ورغم جهود استزراعه في التربة الشعرية العربية من خلال ترجمات رائدة ومتقنة، ابتدأها الشاعر العراقي سعدي يوسف بترجمته مختارات من «أوراق العشب»، وأنهاها الشاعر المصري رفعت سلام بالترجمة الكاملة والأمينة لــ«أوراق العشب»، والتي استحق عليها مؤخراً «جائزة أبو القاسم الشابي» التونسية، تقديراً لما قام به من فضل دائم لا يضاهى على الثقافة العربية. أقول، بالرغم من ذلك وكله فقد بقيت مسألة حضور وتأثير والت ويتمان على الشعر العربي مسألة هلامية متأرجحة بين خفة الصحافة وسرعتها وراهنيتها، وبين إسهامات ترجمية أو نقدية غير ممنهجة وغير مدعومة كمشاريع طويلة الأمد، وبالتالي فلا تأثير حقيقياً يرتجى، ولا سيرورة فعل يفحص نقدياً. لكنّ شاعراً عربياً لبنانياً معاصراً وهو كذلك باحث وناقد وأكاديمي مرموق أصدر في مقتبل هذا العام كتاباً شعرياً كبيراً وغريباً وغير مألوف بعض الشيء أو كثيره، أعاد بل ألقى الضوء من جديد على والت ويتمان بشكل مبتكر لم يتم لغيره السبق إليه عبر منظومة شعرية تعتمد تكنيك «تحضير الأرواح» بجانبيه السحري والعلمنفسي، وتعتمد في الوقت عينه أسلوب التصادي صوتاً ووعياً ما بين شاعرنا العربي وشاعرهم الأميركي، نازعاً عنه معظم الخرافات التي التصقت به منذ اكتشافه عربياً. وإني لأظن بشيء من التأكد المريح إن الكتاب الشعري بعنوان «أنا هو آخر بصحبة ويتمان بودلير رامبو ونيتشه» والصادر عن «مومنت للكتب والنشر» في المملكة المتحدة، للشاعر شربل داغر، سيلقى انشغالاً من القراء الحقيقيين قبل النقاد المغرمين بقضية تطور الأشكال الشعرية وآفاق الشعر الحر وحرية الشاعر في اجتراح «حلولات» ناجعة لأزمة وجود من أو ما يسمى بــ«العربي» كائناً كونياً معاصراً يعاني اللغة ويجنح للحرية والديموقراطية ما جنحوا لها. يقول شربل داغر في كتابه هذا: «يبدو لي، على عجل، بُعدي عن ويتمان: شديد الخصوصية، ما يُقيمني في شعر أجنبي لا في شعر أتفاعلُ معه وأجدُ فيه ما يحرِّضني، ما يستفزني، ما يُبقيني خارجه وأشتهيه. إذ أقرأ شعرَه، أتحقق من أنه يريد أن يبدأ، أن يستهل ما يَعتبره افتتاحاً لتاريخ، حيث هو محمَّل للغاية بما هو حاليّ (في زمنه) وحاضرٌ لدرجة التوثيق والإخبار الوَرَقي أو العياني». يصف شربل داغر شغل وِيتمان في قصيدته، بأنه قد طلبَ هوية أخرى للشعر، وكياناً آخر للقصيدة، فانتسبَ إلى «ديموقراطيته» هذه كثيرون، وحتى اليوم. وسرعان ما يستدرك شاعرنا قائلاً: «بكل أسف، يا ويتمان، لهذا لا أحب أحياناً أميركا التي تُحب... لهذا ضجرتُ، وما شعرتُ بوهج الحماسة المندلعة في سطوركَ الممتدة، مثل من ينتشي بفعلته من دون أن ينتبه إلى أن المتفرج عليه يتثاءب ويستعد للمغادرة. لا ألبي نداء النفير، وقرعُ الطبول أداريه بسماع «الجاز»، فلا تأملْ بأن أكون رفيقَ مشهدٍ ووقائعَ تريد لها أن تكون تكوينية، مثل انبلاجِ حياةٍ حيث لم تكن هناك حياة، في أرض عدن الفردوسية». لقد تسنى لي أن ألتقي شربل داغر وسألته عن بنيان كتابه الشعري هذا، فأفاد قائلاً بأن كتابه الشعري الأخير، «أنا هو آخر بصحبة ويتمان، وبودلير، ورامبو ونيتشه» يتكون من أربعة كتب، والأول منها مخصص لويتمان. وما استوقفني في شعره، والكلام لشربل داغر، في تفاعلي معه، هو أنه بين الشعراء الثلاثة الآخرين كان له وجه عربي واضح. هذا ما جعلني أخصص قطعة في كتابي تحت عنوان: «ويتمان العربي». وبالفعل، فالقارئ لهذا الكتاب المدهش يرى كيف أنّ والت ويتمان يتحدث عن مصر، أو المؤذن، أو النيل وغيرها الكثير، مثلما تحدث رامبو عن «لبنانات الحلم». تحدث هذا أو ذاك ابتداء من الكتب. وطلب ويتمان خصوصاً اللحاق بما هو بعيد عنه، في نوع من عولمة لا اسم لها بعد. «أسمعُ الجراد في سوريا وهو يضرب المحاصيل والعشب باندفاعات غيومه الرهيبة، أسمعُ اللازمة القطبية في الغروب، متساقطة في استغراق على صدر النيل الأم الداكنة الشاسعة المهيبة». «أسمع المؤذن العربي يدعو من قمة المسجد...». «أرى الصحراوات الليبية، والعربية، والآسيوية». «أسمعُ الدراويش ينشدون برتابة، تُوشِّيهم صيحات مسعورة، فيما يدورون متّجهين دائماً نحو مكة». «أسمع من المسجد الإسلامي أذان المؤذن، أرى المصلِّين بالداخل، بلا نسق ولا موعظة، لا جدال ولا كلمة، بل صامتين، غرباء، مخلصين، برؤوس مرفوعة، محتدمة، ووجوه منتشية. أسمع القيثارة المصرية ذات الأوتار الكثيرة، الأغاني البدائية لمراكبية الليل».
ويتمان يبدو في «أوراق العشب» مثل كريستوف كولومبس، فوق سفينة، ولكن في اتجاه معاكس: من أميركا صوب العالم القديم. وما يتضح، في شعره، قوة عامرة بقدراتها التي تتحقق منها: قوة من يخرج من قريته، من ولايته، إلى أميركا كلها. هذا ما نراه، ودائماً مع الشاعر شربل داغر، في وقائع حياته أو في أشعاره، التي تحتفي بالأرض، وبتلك الروح التي تتأكد من تملكها لأرض باتت لها، وتسود فوقها، وتمنع ما يهددها فيها. ما يستوقف في شعر ويتمان هو هذا الجمع بين الخفة والقوة، بين اللهو والتمكن، بين طلب التواصل وإعلاء الصوت الانفرادي. وقد أكد لي شربل داغر في آخر حوارنا المتشعب ذاك أن ويتمان يكتب قصيدته بعينه، بعينيه، إذ تتنبهان لأية حركة، لأي ضوء، للماشين المتهادين في شارع، أو للجرحى في خيمة منصوبة في العراء. أكثر من عينين، إذ يبدو مسافراً بقوة الرغبة في لقاء، في تواصل، مع الغير، أياً كان. لهذا تتخذ حركة عينيه شكلاً أبعد من المعاينة، أقرب إلى سرعة الكاميرا المتحركة، أقرب إلى السينما قبل ميلاد السينما. لا أتصور أنّ أحداً منا استطاع التفاهم مع والت ويتمان شعراً وفكراً، بهذا الشكل الذي عاد به شربل داغر إلينا شعراً وخيالاً وانتباهات. لذلك وجدته يختتم حديثه لي قائلاً بخصوص ويتمان إن القصيدة باتت معه متخففة من الأخلاق، صارت مشغولة بالزمن، صنو الحركة، والكيانية الفردية، في شغف للحياة، سواء في الانفراد أو في الجموح أو في التطلع إلى البعيد.

* شاعر ومترجم وناشر
مقيم بين تونس ولندن