رغم التعدّد الغني لمصادر ثقافة علي الشوك وأشكال نتاجه الكتابي، إلّا أن الموسيقى كانت في مركز نشاطه ومعرفته، وليتحصل بذلك على موقع لم يقاربه في الثقافة العراقية والعربية إلا قلّة، قد يكون منهم الراحلون: القاص غانم الدباغ، والمترجم والناقد نجيب المانع، والروائي والناقد والمترجم جبرا ابراهيم جبرا. في فضاء مدينته الأولى بغداد، كانت الأنغام الشرقية أولى فنون الموسيقى التي قاربها الشوك، حيث «بدأت أتلقى، منذ مرحلة الدراسة المتوسطة ربما في 1945، دروساً في العزف على العود، بصورة غير مباشرة، مستعيناً بإرشادات ابن عمي الذي كان يتلقى دروساً في العود على يد عازف العود والمؤلف الموسيقي العراقي سلمان شكر (1920- 2007)، وقد عزفت بعض السماعيات البدائية». وبقدر ما كان للموسيقى الشرقية، وقع عذب على مسامعه، بقدر ما صارت جزءاً من هويته الثقافية «أصبحت على مرّ الأيام زاداً روحياً لا يستغنى عنه. فهي أشبه بلغة موازية للغتنا العربية» من دون أن يعني هذا القبول بمصادرها وطبيعتها بشكل مستسلم، فهو يقيم موقفاً نقدياً حيالها: «كنتُ ميالاً إلى الموسيقى المدنية أكثر من موسيقى الريف، التي كنت أجدها مبتذلة ربما عن غير حق. كان يستهويني غناء زكية جورج، ومنيرة الهوَزْوَز من بين الأصوات العراقية، وغناء محمد عبدالوهاب، وأم كلثوم في شبابها، وأسمهان». هذا الموقف يبدو طبيعياً، فالرجل هو ابن مدينة عريقة وتقاليد حضرية راسخة، مثلما هو ابن الطبقة المتوسطة بامتياز، التي شكّلت مرحلة النهوض الثقافي في بغداد المعاصرة 1930-1958، أي قبل دخول البلاد في مرحلة التحولات الدموية والتصفيات السياسية العنيفة.

المرحلة البغدادية التي أنجبته وجيله الذهبي
يشير علي الشوك بشكل غير مباشر إلى طبيعة تلك المرحلة، بل إلى جوهر فاعلية الطبقة المتوسطة، لجهة الحيوية الثقافية والانفتاح على الآخر في محاولة للحاق بإيقاع العصر والمعرفة المتطورة: «في مرحلة البلوغ، شهدت انقلاباً موسيقياً ملموساً في حياتي، عندما استمعت إلى نماذج من الموسيقى الغربية وذهلت. أحسست بأنني عثرت على كنز. كان ذلك أكبر اكتشاف في حياتي، قد يوازي أول تجربة في ممارسة الحب... ولا أذكر بالضبط ما هي المقطوعة الموسيقية الغربية الأولى التي استدرجتني إلى هذا العالم الآخر، الذي بدا لي أرفع وأغنى من موسيقانا. كان ذلك عام 1946 على أغلب الاحتمال. وأذكر أن مدرس الرسم، الأستاذ الرسام عطا صبري، كان يُسمعنا «متتالية شهرزاد» عندما كنا نرسم في استوديو الرسم في مدرسة الإعدادية المركزية في بغداد. لكنني على يقين بأنّ شهرزاد لم تكن أول عمل موسيقي غربي استمعت إليه».
لنلاحظ هنا عناصر مهمة تؤكّد جوهر المرحلة البغدادية التي أنتجب الشوك وجيله الذهبي:
- مدرسة حكومية في بغداد بعد الحرب العالمية الثانية تتيح لطلبتها الاستماع إلى عيون الموسيقى العالمية الرفيعة «متتالية شهرزاد» للروسي ريمسكي كورساكوف وضمن فضاء من الانفتاح المعرفي والجمالي.
- التعليم يركّز على الفنون بجدية مثلما يركّز على العلوم واللغات.
كانت علاجه من الكآبة التي سببتها له الأوضاع السياسية في العراق


- التعليم يكون على يد أساتذة مرموقين، فعطا صبري هو أحد رموز التشكيل العراقي الحديث.
هنا يؤكد الشوك ملمحاً متحضراً من بغداد المعاصرة التي توارت ملامحها الجميلة شيئاً فشيئاً: «كنت على معرفة يومذاك بعدد من المقطوعات الموسيقية، التي كنت أستمع إليها مع أصدقاء في بيتنا... فأيّ من هذه المقطوعات كان لها ذلك الوقع الانقلابي الأول المذهل على سمعي؟ لا أذكر بالضبط. كل هذا كان في بغداد الأربعينيات، فأي نهضة ثقافية شهدتها هذه المدينة؟».

من عراق النهضة الواعدة إلى أميركا
في تجسيد حي لمعنى انفتاح الطبقة المتوسطة في بغداد بعد الحرب العالمية الثانية، سافر علي الشوك إلى الولايات المتحدة للدراسة بين 1949-1952 وهناك «تلقيت درسين في موضوع تذوق الموسيقى. كان أستاذنا المحاضر، البروفسور يوكيم نين كولميل، تلميذ الموسيقي الفرنسي بول دوكا، الذي كنا نعرفه من خلال مقطوعته الشهيرة «صانع الساحر»، التي كانت إحدى المقطوعات الجميلة في فيلم والت ديزني الكارتوني الشهير «فانتازيا». كان هذا الأستاذ يشرح لجميع متلقي هذا الدرس، في قاعة كبيرة مدرّجة، الدروس الموسيقية بمصاحبة البيانو، الذي كان يعزف عليه للإيضاح. أهّلتني هذه الطريقة في التعليم جيداً لتذوق وتفهّم الموسيقى. في هذين الدرسين اللذين استغرقا عاماً كاملاً، درسنا الأشكال الموسيقية من بداياتها الأولى حتى العصر الحديث». هذا التحول الثقافي الكبير أغنى علاقة الشوك بالموسيقى الرفيعة لكن أيضاً بمجالات المعرفة الأخرى. هو كان يستمع إلى برامج إذاعة موسيقية كلاسيكية تبث على مدار الساعة بمعدّل قد لا يقل عن عشر ساعات في اليوم. كان يراجع دروسه في الرياضيات ويحلّ المعادلات على أنغام الموسيقى. كما كان يتردّد إلى دار الأوبرا في سان فرانسيسكو، التي لم تكن تبعد عن مدينته الجامعية (بيركلي) سوى 20 كيلومتراً. وفي دار الأوبرا تلك، أتيحت له فرص ثمينة لحضور عروض أرقى الفرق الموسيقية، وسماع أشهر العازفين والمغنين.

البيانو وسحره العجيب
بعد عودته إلى العراق، حاول بصحبة مختارة من محبي الموسيقى الرفيعة، تعويض أنوار الأوبرا في مباهج بيت صغير لعازف الكمان جميل لويس، مساء كل خميس، لسماع الموسيقى: «كانت مكتبة جميل لويس الموسيقية ومكتبتي تمدّاننا بألوان مختلفة من الموسيقى. هذه الأمسيات الأسبوعية الموسيقية كانت متعتنا الروحية بعد أيام العمل والنضال السياسي الذي تتوّج باعتقالي مدة عامين، بعد انقلاب 1963. ولا شك في أنّ أحداً لا يستطيع أن يحيا بدون الاستماع إلى الموسيقى، أي موسيقى كانت. لذلك، أذكر أنّ عذابي في أيام الاعتقال كان مضاعفاً، لأنني كنت محروماً من نعمة الاستماع إلى الموسيقى». بعد إطلاق سراحه، فوجئ الشوك بوجود بيانو في بيت العائلة. كان ذلك هدية من صديق في مناسبة إطلاق سراحه، فراح يجرب ملامسة مفاتيحه بأصابعه التي تفتقر إلى خبرة سابقة، لكن معرفته بأبجدية المفاتيح لم تكن أمية تماماً. مع مرور الأيام، ازدادت معرفته بلغة المفاتيح، وبطرق العزف عليها، بما في ذلك ترعيش الأصابع، وملامسة المفاتيح بدرجات متفاوتة من القوة، والعزف باليدين في آن لأداء لَحنين مختلفين. من هنا، يمكن معرفة سر العلاقة التي جمعت الشوك بآلة البيانو. هو يكاد يكون الكاتب العربي الوحيد الذي كتب في محبة آلة شوبان، لا عشرات المقالات والقطع الأدبية، بل صارت جزءاً حياً من أعماله الروائية. بل إنّ الشوك راح يتابع البيانو كمركز تفاعلي في الأعمال الروائية الغربية الشهيرة، فهو وجد أنّ كل بطلة من بطلات القرن التاسع عشر الروائية قادرة على العزف على البيانو، مثل إليزابيث بينيت في رواية «كبرياء وهوى» لجين أوستن، و«جين اير» لشارلوت برونتي، وماتيلد بطلة «الأحمر والأسود» لستاندال. وفي هذا السياق وجد الشوك أن غوستاف فلوبير أول وأعظم روائي أدرك الأبعاد الدراماتيكية للبيانو. فقد كان بيانو ايما بوفاري شريكها في أحلامها وأهوائها.
لا يتردد الشوك في إعلاء الموسيقى إلى درجة الصدارة في مصادر ثقافته: «الكتب التي تستهويني هي كتب الموسيقى أولاً وبعدها الرواية ثم الكتب العلمية عن الفيزياء والرياضيات». هو يعتبر الموسيقى بيته الآمن «أينما أذهب فإني أعود دوما إلى بيتي وهي الموسيقى، والموسيقى تستهلك عمراً بأكمله كي يستطيع الإنسان تأملها وتذوقها، وعلاقتي بالموسيقى وفهمي لها لم تأت مرة واحدة، بل هي رحلة على امتداد عمري بأكمله. بدأت بالاستماع إلى الموسيقى منذ أن كنت مراهقاً غضاً في بغداد وبدأ هذا الاهتمام يكبر معي، والموسيقى لمّت شملي وأدامت حياتي». وإذا كنا قد تعرفنا إلى الأسس الموسيقية التي كوّنت ثقافة الراحل، فلا بدّ من أن نعرف كيف كانت الأنغام الراقية سلواه، فيما كلّ شيء مما عرف يمضي إلى خراب عميم. هو الذي قال في أواخر أيامه «وأنا الآن، مع تقدم العمر، ومع هذا الانحدار المريع في الأوضاع السياسية والاجتماعية في عالمنا العربي والعراقي بخاصة، أزداد التصاقاً بالموسيقى، لأنها تبقى عندي أفضل وسيلة لمحاولة التغلب على الكآبة القاتلة التي تفرضها علينا ظروفنا القاسية»

* الاقتباسات من مقالات علي الشوك وكتبه وحوارات صحافية معه



كاتب العزلة والحنين
ثلاث روايات صدرت لعلي الشوك عن أشياء أثيرة تشغله: الموسيقى، اللغة، الأدب، الرياضيات والفيزياء. في روايته «مثلث متساوي الساقين ــــ سيرة حياة هشام المقدادي» (2008)، يتابع الشوك سيرة الشخصية التي تشبهه وبدأها في «السراب الأحمر» (2007)، يوم انتهت هذه الشخصية إلى الهجرة من العراق. وعن سيرة المقدادي، تعتقد فاطمة المحسن أن «الراوي يسرد سيرة هشام المقدادي، باحثاً في منطويات ترحاله، عن معنى الحب والحرية والتواصل الإنساني. ما تركه البطل في بغداد يشكل جغرافيا الحنين الى الأهل والأصدقاء، وحكاية حب أينعت في زمن المطاردة والخوف من العودة الى السجن».
هي سيرة عن علاقة الراوي/ الشوك بالنساء ونظرته إلى المرأة خياراً وفكرة، فـ«داليا اللبنانية الأصل، التي التقاها في بغداد، جسدت له صورة المرأة المثالية، تلك التي تفيض عذوبة وجمالاً ورقياً. ولكن اختبار حياة هشام المقدادي، يمر عبر موشور حب آخر لامرأة ألمانية تكاد تشبه الأولى في ميزتين: الرقة التي هي رديف الأنوثة، والتعلق والإعجاب برجل من نمطه، مثقف وكريم ومتفهم لنوازع النساء». هي أسئلة تفضي إلى أسئلة أخرى عن «مغزى الحب وسره، ومعنى الزواج وجدواه.
هل تقتل العشرة الحب، أم تحوله الى ولاء وتفهم؟ هل تعتدي علاقات الخيانة على منطق الوفاء، أم هي تستكمل معاني الحب المتعددة؟ هذه أسئلة جدّ بسيطة، لكنها تكتسب أهمية كبيرة في حياة كاتب، مثل علي الشوك، كرّس وقته للقراءة والكتابة والموسيقى، بل وإلى الوحدة الاختيارية التي وسمت سيرته
الشخصية».


ليبرالية غربية في بغداد
في عام 1971، كتب الروائي والناقد سهيل سامي نادر مقالاً نقدياً في جريدة «الجمهورية» البغدادية تناول كتاب «الأطروحة الفنطازية» لعلي الشوك. حظي المقال بتقدير كبير من قبل اليساريين غير الشيوعيين. أما البعثيون، فقد كانوا في تلك الأيام يعيشون هدنة سياسية وفكرية مع ضحاياهم السابقين. لعلّ بعضهم ممن يتعاطى الفكر، وجد في المقال تفكيراً يسارياً مقابل ليبرالية علي الشوك واهتماماته الغريبة، والباقون منهم عدّوها معركة بين «هنود»، بحسب نادر. عن تلك المقالة التي «قتلت علي الشوك»، يراجع كاتبها جملة من الحقائق، «لقد مارست بطشاً لا يليق بي بحق شخص مهذب لا يستطيع أن يعاقبني ولا يجادلني ولا يشتكيني، وإني بطريقة ما، أرضيت أولئك الذين يسجلون علينا حركاتنا وسكناتنا الثقافية تأييداً أو رفضاً. كانت الشروط السياسية التي تلفنا ومقالاتنا ونشاطنا الثقافي كله هي من القوة بحيث إن كلماتنا يعاد توجيهها بتوزيع وقراءة لا تعود لنا، ليس من جهة السلطة والبعثيين فقط، بل ومن جهة الشيوعيين المتشاطرين أيضاً».
ويستدرك نادر أن«أطروحة علي الشوك كانت شيئاً جديداً في الثقافة العراقية، كتابة جديدة تحدثت عن اهتمامات رجل دفع نفسه خارج المتوقع، أودعها في كتاب لا يتبع خطط الكتب المعتادة. في ما بعد سيظهر سلوك علي الشوك في كتابات تسلّم نفسها الى الجدل الداخلي لبعض فروع الفن والعلم، ولا سيما في الموسيقى والفيزياء. الخطأ المتمم الآخر أنني لم آخذ بالحسبان أن المجهودات التقدمية في الثقافة العراقية، شكلت في تلك الظروف مداخل تستدعي التوسع وليس الاعتراضات والصدّ». يعترف نادر: «لم أتبيّن موقع الكتاب في الثقافة العراقية التي كانت تغيّر جلدها. وبدلاً من أن أقيّمه على هذا الأساس، وصفته كتاباً لطالب رياضيات مجتهد بلا قضية»!