القاهرة | بهية في «العصفور» (1972) وأنيسة في «ليالي الحلمية»... شخصيتان امتلأت بهما كلمات النعي التي دوّنها الجمهور المصري والعربي فجر أمس الثلاثاء في وداع الممثلة المصرية الكبيرة محسنة توفيق (1939 ــــ 2019). وداع امتزج بالحزن على غياب قامة فنية لها مكانة، وبالمرارة بسبب تغييبها المتعمّد في كل العهود بسبب مواقفها وآرائها السياسية.لم يفقد الجمهور موهبة فنية برحيل محسنة توفيق فحسب، بل فقد أيضاً نموذجاً نادراً لا يتكرّر عن فنان منخرط في قضايا أمته حتى النخاع. فنان فضّل تلك القضايا على حساب موهبته ونجوميته. فمواقفها السياسية المنحازة دوماً إلى مصالح الشعب والمناهضة الشرسة للاحتلال الإسرائيلي، غيّبت محسنة توفيق طويلاً عن الشاشة بسبب إحجام المنتجين عن إسناد أيّ دور لها، خوفاً من آرائها السياسية بسبب انتمائها الواضح والمعلن للتيار اليساري منذ مُقتبل العمر، وصولاً إلى «ثورة يناير» 2011 التي شاركت في تظاهراتها الأولى، من دون أن تستغلّ ذلك في العودة إلى الأضواء والظهور كمناضلة سياسية في الصحف والبرامج. كانت توفيق تمارس السياسة كما ينبغي لمناضلة نقية لا تطمع في أيّ مكسب، وتمارس الفن حباً بالتمثيل لا كمحترفة تسعى وراء الشهرة والأجر المرتفع. هكذا، ظلّت موهبتها تذوب في كل شخصية تقدمها، من دون أن تفكر في ما يحدث خارج البلاتوهات.
تخرّجت محسنة توفيق في كلية الزراعة في عام 1968 وبدأت مشوارها الفني قبل التخرج بكثير، وتحديداً منذ بداية الستينيات من خلال خشبة المسرح كعادة الممثلين الجدد في تلك الفترة. إذ كان المسرح يستقبل كلّ المواهب أولاً، ومن خلاله تنتقل إلى شاشة السينما، ومن بعد ذلك شاشة التلفزيون. توفيق هي شقيقة الإذاعية المصرية الشهيرة فضيلة توفيق المعروفة باسم «أبلة فضيلة». أمّا زوجها، فهو أحمد خليل الذي توفي قبل عامين، وكان يعدّ من أقطاب التيار اليساري، فيما نجلها هو وائل خليل الذي يُعتبر من الناشطين السياسيين المعروفين في مصر. على الشاشة، قدمت محسنة توفيق أدواراً قليلة مقارنة بحجم طاقتها الفنية الكبيرة، لكن معظمها كان مؤثراً، خصوصاً في تعاونها مع المعلّم الراحل يوسف شاهين. درة هذا التعاون كان فيلم «العصفور» (1972) الذي جسّدت فيه شخصية «بهية»، وهو الاسم الذي يطلقه الشعراء على مصر. الفيلم الذي دارت أحداثه عام 1967، انتهى بصيحة محسنة توفيق «هنحارب ..هنحارب»، بعد تنحّي الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إثر هزيمة يونيو القاسية. مع شاهين أيضاً، قدّمت توفيق شخصية «أم يحيى» في فيلم «إسكندرية ليه» (1978)، وشخصية «أم علي» في فيلم «وداعاً بوناربرت» (1985). سينمائياً، ظهرت في أفلام أخرى بارزة من بينها «ديل السمكة» (تأليف وحيد حامد وإخراج سمير سيف ـ 2003) أمام عمرو واكد، و«بيت القاصرات» (ﺗﺄﻟﻴﻒ أحمد عبدالوهاب ـ ﺇﺧﺮاﺝ أحمد فؤاد ـــــ 1984) في شخصية مديرة دار القاصرات أمام محمود عبد العزيز، و«الزمار» ( ﺗﺄﻟﻴﻒ رفيق الصبان ـ ﺇﺧﺮاﺝ عاطف الطيب ـ 1985) مع نور الشريف. وأطلّت مع النجم نفسه في فيلم «قلب الليل» (قصة نجيب محفوظ ـ إخراج عاطف الطيب ـ 1989).
على مستوى الدراما، ظهرت في العديد من الأعمال من بينها والدة بطل مسلسل «الوسية» (إخراج: إسماعيل عبد الحافظ ـ عام 1990)، وجسدت شخصية صفية زغلول في مسلسل «أم كلثوم» عام 1999، لكن درة إنتاجها التلفزيوني بالطبع كانت شخصية «أنيسة» التي قدمتها على مدار أربعة أجزاء في مسلسل «ليالي الحلمية»، واعتبرها كثيرون نموذجاً للأمّ الحنون التي ربت ابن شقيقتها «علي سليم البدري» ولم يرزقها الله بأبناء. والمفارقة أن محسنة توفيق لم تكن البطلة الأولى للشخصية، بل جسدتها في الجزء الأول (عام 1987) الفنانة فردوس عبد الحميد، وتردّد وقتها أنها اعترضت على تراجع عدد مشاهدها في الجزء الثاني، ليذهب الدور لتوفيق التي دخلت من خلالها ذاكرة المشاهدين إلى الأبد.
درة إنتاجها التلفزيوني كانت شخصية «أنيسة» التي قدمتها على أربعة أجزاء في «ليالي الحلمية»


وعلى خشبة المسرح، قدّمت أعمالاً عدة من بينها مسرحية «مأساة جميلة» لعبد الرحمن الشرقاوي، عام 1962 عن المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد، على المسرح القومي، وبعد أربع سنوات قامت بأداء دور حبيبة زيوس في مسرحية «أغاممنون» على مسرح الجيب. تلقت توفيق تكريمها الأول من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر عام 1968 حيث حصلت على وسام العلوم والفنون، وكانت أول فنانة شابة تحصل عليه في ذلك الحين، مع الأخذ في الاعتبار أنها تعرّضت للاعتقال قبلَه مع العديد من الكاتبات والفنانات. كانت توفيق من هؤلاء الذين جمعوا بين التعبير عن محبّة الزعيم الراحل والاعتراض على سياساته في الوقت عينه. وفي عهد السادات، عارضته علناً وانضمت إلى مؤسّسي «حزب التجمع اليساري» لدى انطلاقه عام 1976، مع نخبة من الفنانين والمخرجين على رأسهم يوسف شاهين وجميل راتب وسيد حجاب وعبد العزيز مخيون. وكانت من المناهضين لاتفاقية السلام مع إسرائيل. وفي عهد حسني مبارك، رفضت الانضمام إلى وفد شكّله نجله جمال لزيارة لبنان عام 2006 إبان عدوان تموز، مفضلة أن تقوم بذلك ضمن وفود شعبية لا رسمية. يومها، أخذت على مصر بأنّها «تخلّت عن دورها الحقيقي عندما وقّعت اتفاقات الخيانة في كامب دايفيد»، فيما اتّهمت بعض الأنظمة العربية بـ«التواطؤ مع المذابح التي تقترفها إسرائيل في لبنان». وفي عام 2013، حصلت على جائزة الدولة التقديرية عن مجمل أعمالها، وكرّمها «مهرجان أسوان لأفلام المرأة» قبل ثلاثة أشهر. أما آخر أعمالها، فهو «أهل اسكندرية» الذي تمّ تصويره عام 2014 قبل أن تتغيّر الأوضاع السياسية في مصر ويتم التعامل معه باعتباره عملاً يحرّض على الشرطة المصرية ويُمنع من العرض حتى الآن!