تؤمن «جمعية لبن» بأن المسرح هو مساحة تعبيريّة جامعة. بيروت هكذا أيضاً هي «قارة لإنتصار الحياة» مثلما يقول الشاعر أنسي الحاج عن الحريّة. تطلّ بيروت على كلّ شيء، وكأنها سطح العالم. الموسيقى والشِعر والرقص هي وسائل تعبيريّة تخدم الحريّة وتنطوي تحت جناحها. بيروت هي مكانٌ جامدٌ من شدّة الإسمنت. الحياة هنا مصبوبة في قالبٍ واحد، وحده التعبير بشتّى أشكاله «يخترع الحياة كلّما انتهت» لنا، مثل أُنسي.
أسطح المباني في العادة مفتوحةٌ على السماء، يمكنك التعرف إلى المدينة من خلالها، كأن المدن موصولةٌ بأسطحها. المسرح التفاعلي في العادة يسعى لأن يكون همزة وصل بين مسرحه وبين المشاهدين. هذه المقاربة التي تتبنّاها «جمعيّة لبن» في العادة ساهمت في خلق مكانها الخاص على سطح مبنى «زيكو هاوس». هكذا جاءت تسميّة المهرجان، «سطوح الوصل» لكل ما يتخلله هذا المهرجان من منبر تفاعلي وملتقى لفنانين وعازفين لبنانيين وسوريين وفلسطينيين. سعى كل حفل في هذا المهرجان لأن يكون متفرداً بأسلوبه التفاعلي الخاص. في يومه الأوّل في السابع من آذار، قام كلّ من الموسيقيين زياد الأحمدية ومنير محملات ومكرم أبو الحسن وبهاء ضو بأداء عزف موسيقي تحت عنوان «قصص على الجسور» حيث القصص تُتلى في الموسيقى. هكذا قديماً كانت تتحوّل المعزوفات من تجارب شخصيّة إلى عادات شعبية بطابعٍ موسيقيّ. الموسيقى هي ذاكرة ولغة طبعاً، لذلك حينما تمتزج مع الشعر تتحوّل إلى غناء. من هذا المنطلق، تخللت اليوم التالي أمسية شعرية للشاعر اللبناني مهدي منصور وموسيقى على العود وغناء للعازف أشرف الشولي تحت اسم «مقام الشعر». ضمن الإطار نفسه، شهد المهرجان امسيّة موسيقيّة للمغنّي رشيد النجّار والعازف عمر العاقباني بعنوان «تحت التفاحة» تتخلّلتها أغان ومعزوفات متنوعة بتوزيع جديد، بالإضافة إلى امسية غنائيّة أخرى تضمّنت أغنيات أجنبيّة وعربيّة تحاكي الحب بصوت ليليان شريم وعزف علي صبّاح.
في الأمسيّة الغنائيّة الأخيرة «قررنا الآتي»، قدّمت أمل كعوش مجموعة من مؤلّفاتها الغنائية الخاصة، بالإضافة إلى مجموعة منوّعات غنائية من الموروث الشعبي العربي. انتقلنا من كون الموسيقى فناً مرتبط بالذاكرة، جامعة للزمان والمكان إلى عرض مسرحي لفرقة «منوال» أدته الممثلة رؤى بزيع (إخراج جاد حكواتي) تحت عنوان «برزخ» على اعتبار أن البرزخ هو الحاجز بين الشيئين، وهو أيضاً ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث. فمن مات، دخل البرزخ، حيث لا زمان ولا مكان. جسّدت الممثلة تجربتها الشخصيّة التي اختبرت فيها عالم «البرزخ» بانتقالها من زمن إلى زمن آخر بعدما تعرضت لحادث سير كاد أن يودي بحياتها. هذا ما يخلّفه الموت فعلاً زهوراً تنطلق إلى السماء وتُقطف لتوضع في القبور. في عرضٍ آخر هو «هذا الشتاء» (إخراج ابراهيم خليل)، تمت مقاربة طقوس العزاء في منطقة البلقان وألبانيا على أنها شبيهة لطقوس العزاء في مناطقنا. عدد من الممثلين عملوا على ربط الموت بالحياة عبر رقصات تعبيريّة جسّدت الموت والضحايا معاً.
ولاحقاً، استضاف المهرجان عرضاً مسرحياً لأحد أعضاء الجمعيّة هو «تحريف ثنائي» تخللته دمى واقعيّة. سرد العمل قصّة ثنائي ضمن فترة السلم والحرب، وتأثيرها على الشخصيات وعواطفهم. العرض مقتبس من مسرحية يونيسكو «تخريف ثنائي» مؤسس مدرسة المسرح العبثي، في حين أفسح المهرجان فرصة لمشاركة قصص الحضور وإعادة تمثيلها مباشرة عبر فعالية «قصصكن على المسرح» الذي قدمته فرقة «وصل» التابعة لجمعيّة «لبن» والمختصة في الشقّ الإجتماعي والسياسي. واختتم المهرجان فعالياته في 16 آذار مع عرض مسرحي مرتجل هو «ارتجال فوق السطوح» قائم على إقتراحات الجمهور. هذا النوع من العروض هو الأوّل من نوعه. رغم أن جمعيّة «لبن» قائمة على المسرح الإرتجالي، الّا أنها لم تجد المساحة اللازمة في بيروت للإستمرار به. بعد توافر المساحة اللازمة والملائمة، سوف تستضيف هذا العرض بشكل شهري في الأستوديو الخاص بها.
حين تغنّي فيروز مثل تنهيدة حلوة «تعبانة وبدي حاكيك حاكيني الله يخليك» هي تبحث عن منفذٍ للتعب. شبّاكٌ مفتوح على العالم وعلى قلبها. تغنّي كي يكون الكلام وسيلةً للتعبير، كي يكون له معنى. فيروز تشبه المسرح؛ الذي يتحدّى الإسمنت المصبوب ليقول للمدينة «نقّلني على شبابيك الليل وعلى سطوح الدار».