يبدو الآن الأمر مضحكاً أن أنظر إلى وجهي فأرى وجوه كل الذين كنت أمثّلهم يوماً ما... ومن الواضح أيضاً، خاصة بعد كل هذه السنين، أنهُ قد فاتني أن أكون بطلاً، فلقد بدأت حياتي وأنا ممثلها الوحيد وأنا المشاهد... لكن تعجبني فكرة أنني كنت الضحية التي تريد أن تعاقب العالم. طفل بعمري يشتم ويغضب ويبيع المخدرات، ويسرق إذا اضطر الأمر ويقتل ويُسجن وكل هذا ليحمي نفسه أكثر أو ليحقق ما لم يحققه لهُ أحد. ولكن في ذات الوقت، انتبهت لكوني طفلاً عنيداً بطريقة مدهشة، وذكياً وجاهزاً لمساعدة الناس أو تبادل أطراف الحديث مع طفلة بعمري بطريقة مهذبة، وأستطيع أن أكون رحيماً حنوناً وطيباً رغم كل القسوة التي عرفتها، ولكني امتلكت صفات جميلة ومتأكد الآن أن هذه الصفات لم تأتِ من الرصيف الذي نمت عليه أو البرد الذي كان يأكل عظامي في أزقة المخيمات. ومن المستحيل أن يتشكل من مكعبات الثلج والسكر. هذه الصفات يكبر عليها الأطفال، لا تؤخذ على شكل لقاحات أو حبوب مضغوطة في مرحلة ما من الحياة. هذه الصفات تكتسب من العائلة، من الإخوة والأب والأم أو الحي والأقرباء…
هل كنا كعائلة سيئين لهذه الدرجة؟ لن تتفاجأوا لو قلت لكم لقد كنا أسوأ ولكن …
هذا كلهٌ الآن يعيدني نحو البداية، إلى ما قبل الفيلم وما قبل بيروت، ولربما ما قبل فهم الطريقة التي يسير بها العالم. أريد البداية التي سوف تتجنب نصف الحقيقة التي عرضها الفيلم. أريد أن أقدم الحقيقة الكاملة التي لا يهمني أن يعرفها الجميع بقدر ما يهمني أن أقولها. لم أكن أعرف أني من الفقراء في وقت الجوع. كنت أظن أن الجوع قد يصيب أي شخص أو إنسان، وعائلتي كانت كثيراً ما تجوع وكثيراً ما تواجه الجوع بأساليب بدائية جافة وغالباً لا طعم لها. الشعور الحقيقي بالفقر كان ينتج من التماس الفرق بين نظرتي للعالم ونظرة العالم لي، بين احترام رجال الأمن للآخرين وعدم احترامهم لي أو لأبي أو أمي…
المشكلة أن الكاميرات وصلت في المنتصف. عائلتي كانت تضحك، فقد كنا نجوع ونضحك مثل كل الناس. لم يكن الأمر معقداً إلى هذا الحد، وكان لأبي حلم وأظن أنهُ أخذ أمي عن حب، وجلب لنا بعض الثياب. تبادل معنا بعض النكات. وحاول أن يواجه العالم وأن يتوظف. ابتسم كثيراً قبل أن يبدو بهذا الغضب، ولكن المهم أن الفقراء يضحكون ويحاولون، وأحياناً لا ينامون من كثرة التفكير بالحلول. وهنا تكمن المشكلة أن المجتمع والحكومات يضعاهم أمام خيارين: إما انقرضوا أو ابقوا هكذا على حواف الأشياء، ولا تقتربوا كثيراً أو تزدادوا أكثر كي لا تصبحوا مادة دسمة للأفلام أو متهمين بقلة الضحك وكثرة الإنجاب والترويج للإنجاب وسبباً قومياً لسوء الاقتصاد ورئيساً لانتشار الأمراض، وسوء الأحوال الجوية وتأخر إشارات المرور، وضجيج الشوارع أو سمرتها الزائدة كلما اشتد الصيف أو الشتاء…
لا يا سادة نحن نحب الحياة. وكل ما حدث لم يكن بسببي أو بسبب أبي أو أمي، بل بسبب غياب الحكومة. لا أحد يختار يأسه وبؤسه. لا أحد يختار اللجوء. لكن السلطة تضعه أمامك كخيارك الوحيد، وتقسم المجتمع إلى فئات وطبقات فاتحة كل الأبواب للعنصرية لكي تنتشر في كل حي وكل بيت وشارع…
أرى الفوضى الآن. الفوضى التي صورها الفيلم. الفوضى التي تنتشر في الكلمات والصمت، نقلت الفوضى التي عشتها. نعم، لكن يبدو الأمر مضحكاً بعد كل هذا أن أبدو وكأنني قد مثّلت شريحة كبيرة من الفقراء بنصف وجه، بنصف حياة.
وسيبقى زين الذي كنتهُ شيئاً مني، يشبهني رغم سذاجة فكرة أن أرفع قضية على أهلي. ستبقى هذه البراءة التي تحاصر ما مثلته موجودة إلى الأبد بكل إنسان كان فقيراً أم غنياً. وإلى الآن أسأل ماذا كان سوف يحدث لو لم تخترني المخرجة نادين لبكي لأقوم بهذا الدور، سأكون متهماً بفيلم آخر أو دراسة أخرى بالفقر، بالقتل، بالبطالة أو الإهمال، سأتهم بالشتيمة بكل شيء…
وهذا ما أراه مضحكاً منذ البداية. أنني أنا جزء من براءة أبي الذي لم يحبه أحد من المشاهدين، وخوف أمي التي شتمها الجميع عندما قالت إنها حامل، وفشل السلطة التي تضعني أمام خيارين إما الفقر أو الانقراض.