تحت عنوان «رحلَ ناطور الجمال» أصدرت «الحركة الثقافية – انطلياس» بياناً تأبينياً للشاعر الراحل موريس عواد (1934 ـــ 2018) ننشره كاملاً:«قيل: «ما أَحسنَ المصباح إذا كان زجاجُه نقيّاً، وضَوءُه ذكياً، وزيتُه قويّاً». هذا المصباح، موريس عواد، تحصّن بزجاجه النّقي في دير غزير، واستمدّ ضوءَه الذكي من التراث الروحي، واحتفظ بزيت الحكمة، في هذه الدنيا، بدلاً من الغنى. ولما ترك غزير، حمل في وجدانه أصواتاً ثلاثة: أنتيغون، والمجدلية، وجلنار... وعرفاناً طيّباً للراهب الذي اكتشف الشاعر الفتى. ومن دائرة مجلة «شعر»، إلى دائرة «جريدة لبنان» وسعيد عقل، إلى دائرة الحماسة، والسياسية، ومصير الوطن... ظلّ الشاعر يغنّي، للذات، وللحياة، ولفضاء هذا الشرق، لكنه عندما اكتشف حقيقة الصراعات، والتناقضات الغريبة، في مواقف الأفراد، والجماعات، ارتدّ طفلاً نحو عزلته، من دون أن يوقف الغناء... والصراخ، وينشأَ جبلٌ من الجليد بينه وبين سعيد عقل، بعد إهمال هذا الأخير للمحكية، ويُسمّيها موريس «اللبنانية»!
وبقي همّه، طوال حياته، كيف يُنمّي تداوليّة اللغة المحكية، وكيف يحمي هذا الجبل – الملجأ، وكيف يجدّد الحالة الشعرية، وسط غربة العالم، ونفاق أبناء آدم. وبينما كان «حكي غير شكل» يطير الى العالمية، من خلال الفرنسية، كان «قنديل السّفر» يشتعل بالايطالية، بينما تزهر «التصوينة»، من جديد، عبر الترجمة الى البولونية، وهكذا سعى الألمان الى تبنّي «الأمير الصغير»، في مقام أدب الأطفال. ولئن عدّه أركاديوس بلونكا في كتابه عنه بالفرنسية، شاعراً، وحسب، في جوهر طبيعته، وفي ذلك يكمن سرّ خلوده (ص 75)، فنحن نميل الى هذا الحكم، من دون أن ننسى نتاجه المرتبط بالتاريخ (المورسيادا)، واللاهوت (إجت الساّعا يا بيي ـــ ترجمة الكتاب المقدس – العهد الجديد الى المحكية)، والنقد الأدبي (in memoriam للضّيعانو يخلص سعيد عقل) والرواية، والسياسة، وغيرها.
وأبرز ما آلمه شاعراً، هذه الهوّة التي تفصله عن الخالق، الذي يعرف حاجات الأرض، ويبقى فوق (من فوق؟ مش رح فيك تعرف شو بني)، (بتحكي من بعيد...)، واختصاراً لهذه المأسويّة الداخلية التي عاناها، نقف على هذا المشهد الحواري:
«حاجي تْحرقصني بنجومك
بيكفّي سكوتك تعّبني
ليش مْخبّا خلف غيومك
والقدَر نازل يضْربني؟».
وسرعان ما يكتشف هذا الشاعر – الطفل أن تكرير الأسئلة أتعبه (من وين أنت؟) فاكتفى بالكلمة – البيت، وبالأرض – الورقة، وبالحبر – البحر، وحاول الانتقال من الشعر الى الشّارع، الى حوار من نوع آخر:
«يَلاَ شعري: هِبّ وكِبّ
ملوك الخيل بنص الشّارع
ياها الشّارع كون الربّ
ويا ربّ طْلاع من الشّارع»
(يا شعري دقّ مسامير)
وبين انين أوتار الايمان الموجوع ورنين أوتار الشارع المجبول بالهموم، عاد الشاعر الى ذاته، ليرى أن تساؤلات الميتافيزيق، وثورات التغيير في وادي الدموع، لم تُجدِ، فتحول ليرى الخلاص في الشعر، وليجد انه هو في ذاته المخلّص، وقد لا يأتي التحرّر من خارج مهما عنف الصّراع، واشتدّ الصّراخ:
«والأرض تصرخ آخ، قِلاّ شو بكي
إنزل عَ بَحر الآخ شوفا عم تعوم
إخرق سكوت الليّل، إمرق بالبكي
إحلم الحلم وخرتشو فوق الهموم
يا شعر خَلّي الأرض تبرم تكتَكي
وحطّ وجّي بالسّما وإفرش نجوم»
هذا الذي حاول أن يوقظ المدينة من نومها، أن يرسل الصّبح إلى الشعوب المحوطة بالليل، هذا الذي حاول ان يكون لنا ناراً في الصقيع، وتحوّل الى جرح لا ينام، هذا الطائر، «ناطور الجمال» كما أحبّ أن يكون، رحل، لكنّ تعزيته أن صديقين له، ودّعاه بكتابين: «موريس عواد الشاعر الأسطورة» لربيعة أبي فاضل (2018)، و«الرؤيا – زورق الجمال» لجورج الحاج (2018). وقد قرأ الكتابَين، فآنساه في وحدته، وفي وحشته، وفي فقره هو الغني، وفي يأسه هو الفرح، وفي خوفه على لبنان، هو الذي نذر الفقر، والعفّة، والطاعة، للأرز، ولهذه الجبال، ومعها السهول...
وقد يكون آخر الشعراء الكبار، في عصر التكنولوجيا، والتكالب على المادة... ونتخيّله، اليوم، الى جانب إميل مبارك، وميشال طراد، وكريم الكركي، يكملون الحوار، فوق، مع ساكن الأعالي كي يرسل سحابته، ويلف لبنان بنعم الخير والسلام، وسط زمان بتنا نترحّم فيه على شارل قرم، ويوسف السودا، وانطون الجميل، وفؤاد شهاب، ومعظم الذين تعالوا على الانانيات، وخدموا بإخلاص وطناً أحبّوه، وانساناً ميّزوه، وحضارة تغنّوا بمصابيحها!
إن «الحركة الثقافية – انطلياس»، التي كان شاعرنا الكبير أحد الأعضاء المؤسسين لها عام 1978، اقترحت في اجتماعها الأخير تسمية دورة المهرجان اللبناني للكتاب (آذار 2019) دورة موريس عواد، وستنظم خلال المهرجان ندوة عن انتاجه الشعري، وإذ تتقدم من عائلته ومن قادريه بأعمق مشاعر التعزية، فإنها على يقين من ان أدبه سيبقى محط احترام وتقدير وخلود في ثقافتنا اللبنانية المعاصرة.