لم يكن مختار مستاءً من هذا الفصل المفاجئ، لأنه منحه مكانة المنشقّ السياسي وضحية حرية التعبير، التي تثير اهتمام مثقفي البلاد الديموقراطية الغنية في ما وراء البحار. هؤلاء المثقفون الشجعان، الإنسانيون بلا حدود، يمتلكون موهبة تحويل أي تافه من توافه الكوكب إلى شهير، أي فرد خضع لأقل القليل من التنكيد أو احتجز لبضعة أشهر في المعتقل، في أي ظرف من الظروف، من قبل أى حكومة ديكتاتورية دموية. كانت هذه الفكرة تسعده كما المزحة. خلال لحظة، يتخيل منفى براقاً في أرض غريبة تحييه فيه وتدلـله كل العقول المفكرة في نصف الكرة الغربي. هنا، كان واعياً بأن التمجيد البعيد، بل وبعيد الاحتمال أيضاً، بالانشقاق الذي كان مبتكره العبقري لا يرتبط بأي جهة معارضة للحكومة. كان مختار ينكر كلياً كل الحكومات، سواء كانت منتخبة أو مفروضة من قبل القوة العسكرية، لأنها جميعاً متأتية من قالب واحد ومكونة من نفس المجرمين. وبالتالي، من الغباء قلب أي نظام حكم، لأن حكومة أسوأ من سابقتها ستتولى الأمور فى النهاية. وبالتالي بداية جديدة ومتكررة لهذه الكوميديا البشعة.
بالنسبة إلى مختار، الطريقة الوحيدة لمقاومة أي نظام سياسي لا يمكن تصورها إلا في إطار الدعابة والسخرية، بعيداً عن أي سلوك أو عناء تستوجبه الثورة عادة. في الحقيقة، يتعلق الأمر بالتسلية غير المألوفة وليس اختباراً قابضاً للنفس لأجل الحفاظ على الصحة. معركته ضد الخزي السائد لا تستلزم جماعة مسلحة ولا حتى شعاراً يعلن وجودها. إنها معركة منفردة، وليس تجمعاً لكثير من الصائحين، ولكن عملية ظريفة لإنقاذ الإنسانية، من دون التماس رأيها ومن دون انتظار الإجازة القادمة من السماء. منذ فترة طويلة، قرر مختار أن يكون دوره في الحياة ممثلاً في نسف الفكر العالمي وعفونته المقززة التي ترهق منذ قرون مخ البؤساء الضعيف. لم تزل الجماهير الإنسانية، المحطمة والهشة، التي تحيا على الكوكب، مجبرة على الاعتقاد بكل ما يحكى لها في الدعاية التي تحقر الحقيقة بلا انقطاع. ظهر له بوضوح أن دراما الظلم الاجتماعي لن تتلاشى إلا حينما ينكر الفقراء القيم الأبدية للحضارة، قائمة الأكاذيب المتعمدة، المبرمجة لجعلهم دوماً تحت نير العبودية. مثلاً، الصدق. اعتقد الفقراء بأن الصدق هو الفضيلة الجوهرية التى سوف تنقذ أرواحهم من نيران الجحيم، وهذا الإيمان يقودهم إلى بؤس مستمر، بينما الأثرياء، الذين ابتكر أجدادهم هذه الكلمة، من دون الاعتقاد بها، يواصلون اكتنازهم للثروات. من المؤكد أن هذا التحليل، الصبياني ظاهرياً، للاقتصاد الرأسمالي، لن يرضي العقول الجادة، أعداء الحقيقة القساة، لأن بساطته سوف تمنعهم من أن يكونوا عميقين. قبل ثلاثة أشهر، حينما التمس مختار هذه الوظيفة كمعلم، لم يسع الى أن يكون متمكناً فيها. المعلم مهنة مثالية لممارسة تدمير الخطاب الخبيث، الكذوب التقليدي، المصور على أنه تمديني، المستعمل في جميع القارات.
في الواقع، منحته المدرسة فرصة رائعة للتعامل مع التلاميذ الصغار، الميالين إلى التخريب عن البالغين الذين خدرتهم المفردات المهيمنة لفترات طويلة. ضمنت نقمة المدير له النجاح، ولو مع جزء صغير من الشعب على الأقل، ولكن هذه النتيجة الهزيلة تمثل حمولة متفجرة، يحملها ثلاثون مراهقاً مجهزون بوعي مجدد جاهز لنشر معرفتهم الجديدة في كل مكان. رأى مختار هذه الجماعة من المبشرين المرحين تكبر وتنتشر في جميع أنحاء البلاد، ولمَ لا، ما وراء الحدود نحو المدن البائسة فى الجنوب المحتضر؟
بالنسبة إلى مختار، الطريقة الوحيدة لمقاومة أي نظام سياسي لا يمكن تصوّرها إلا في إطار الدعابة والسخرية
فجأة، قطع نباح كلب ـــ كأنه صادر عن جنس نادر وغريب، في أرجاء الحي ـــ تخيل هذا المستقبل العجيب. في نباحه، جرعة ملحوظة من الفظاظة والتحدي الموجه نحو أوغاد مكروهين، لا نعرفهم بالضبط. مسحوراً ومفتوناً بهذا الأداء، فكر مختار في البحث عن هذا الحيوان بنية اقتنائه فى حال هروبه من مالك ظالم وسيئ التربية. فكرة التنزه برفقة كلب ذي طوق تثير بهجته كمعركة دقيقة أكثر من أسطورة تفوق الإنسان غير الدقيقة. إذاً، بدأ يفتش الرصيف، ولكن بدلاً من مقابلة ودودة مع عضو سام من جماعة ذوي الأنياب، انبهر بالألوان البراقة تحت أشعة الشمس الشاحبة، التي تبدت فجأة من وسط السحب، كأنها تود المشاركة في هذه الفتنة المذهلة. المسؤول عن هذا التطفل غير المألوف، رمز الحداثة، في الديكور القذر للرصيف، رجل في العشرينيات من العمر، ذو بنية جذابة وهيئة أرستقراطية، يجلس في مدخل المقهى، ويتفاخر بارتدائه مجموعة من الثياب من مختلف الأنواع والألوان بمجازفة كبيرة. كان هذا الشاب الرياضي يرتدي في زيارته السياحية لهذه النواحي المحرومة بنطالاً من الكتان الأبيض، وقميصاً من الحرير الأحمر كاشفاً عن صدره، وسترة سوداء من قماش الكشمير، وزين عروتها بزهرة ياسمين. ولكي يتمم هذا المظهر المترف الرقيق، كان يرتدى حذاء لامعاً، مثل تلك الأحذية التى يرتديها الوزراء والقوادون حينما يتوجهون إلى الأوبرا. بيد أن غرابة مبعوث الجحيم ذلك لم تتوقف عند هذا الحد: يدخن سيجارة حشيش يرسم دخانها الساكن ما يشبه الهالة أعلى رأسه.
قبالة هذا المشهد الخارق، ينتظر مختار النهاية بهدوء، وهو يعي بغرابة أن هذا الأمير، أمير الأناقة، الضال في هذا المكان، بعث إليه برسالة في غاية الأهمية. يقال إن حامل هذه الرسالة فهم هذا الانتظار وتهيأ لنقلها، لأنه – من دون أدنى تأخير – تخلى عن جلسته الكسول، وقام عن مقعده، ورفع عينيه إلى السماء، ثم، وبمثابرة المغني الشهير، نبح بفظاظة وعناد ساخر، كأنه يطلق نباحه بشراسة ناحية ملاك المنزل المقابل. في لحظة، توقف عن نباحه والتفت الى مختار، الراضي ظاهرياً بما فعله.
أثنى مختار عليه خفية لئلا يوقظ الرجل النائم على دكته، بما أن عامل الواقع المحسوس فقط هو الذى يقيه من الفزع. بدون شك، يتضمن هذا النباح معنى خفياً عليه أن يفك شفرته فى أسرع وقت، إلا أن مقلد الكلاب الحانقة لم يترك له أي فرصة، ووجّه إليه هذه الجملة الغريبة:
كنت متأكداً من أنك ستفهم.
من أين أتيت بهذه الثقة؟ سأل مختار. سوف أكون سعيداً إن عرفت الأسباب.
انتصب الشاب الأنيق، المدعو حيدر، واقفاً واتجه لكي يجلس إلى طاولة بالقرب من مختار، وراح يتكلم بحماسة ودودة مكثفة، كأنه يريد أن يستحوذ على محادثه.
مررت من هنا، تقودني الصدفة، حينما رأيتك جالساً في هذا المقهى القذر. ولكن بدلاً من الحزن وثقل الوحدة، تطفو ابتسامة فريدة للغاية على شفتيك، هذا النوع من الابتسامة الماكرة يمثل تحدياً للفظاعة العالمية. أشعر بكونك أقوى من أي ثري. وهذا ما حثّني على التفكير في أنني أمتلك نفس قدرتك على الفهم.