في اليوم الذي أصابنا فيه خبر رحيل عماد بصاعقة أحالت كلّ تأملاتنا في الوجود وتقبّلنا للموت على أنه الحقيقة الكبرى أو على أنه انتقال من حياة إلى حياة، إلى زجاج طحنته قارعة الصدمة، أسررت لبعض الأصدقاء في جريدة «الأخبار» برغبة كبيرة في الكتابة عن «الراحل الكبير»، صديقنا ورفيقنا وشقيقنا الأصغر الذي أمضينا معه أحلى أيام العمر، بين فرقة «الراحل الكبير» في حلّها وترحالها، ومشاريع أخرى أكثرها بريقاً في ذاكرتنا مسرحية «يا نايم وحّد الدايم» التي قدّمناها معاً في شهر رمضان الماضي، وكان فيها عماد صبيّ المقهى الدمشقي الفقير، يختتم العرض بسرقة قلب بطلته «الستّ ألمظ» ويغني معها «أنا هويت وانتهيت» موقّعها إسدال الستارة على عبارة «على الدنيا السلام».ثمّ علمتُ أن الأصدقاء القيمين على الصفحة الثقافية في الجريدة كانوا أصلاً في صدد التفكير بتخصيص ملفّ عن عازف العود المحترف والمغني الخلفيّ والممثّل في خطواته الأولى، الذي كان أساساً لا غنى عنه في جملة من المشاريع الفنية في بيروت تراوحت بين التقليد الموسيقي للقرن التاسع عشر الأحبّ إلى قلبه مع مصطفى سعيد، والإنشاد الديني، والأغاني المصريّة في منتصف القرن العشرين وما بعده مع نعيم الأسمر، واللحن الثائر المتآمر على الواقع للشيخ إمام مع ساندي شمعون، والغناء الشعبي المصري مع فراس عنداري، وغير ذلك من ألوان النغم الباحث عن فرح أو معنى ما بين رنين الأوتار وقرع الطبول..
وبعد انقضاء أيام طوال على فراق عماد شابها ما شابها من مظاهر الحزن المودي بأصحابه إلى حافّة الجنون، لا أخفي القول إن الرغبة في الكتابة عن عماد قد خفتت بل صارت ثقلاً أود، كما الكثيرين ممن عاشوا معه أيام الغبطة والتوتر والفرح والقلق، أن يطوى.. وأن ينتهي زمن الحداد، لنعود إلى ما بقي لنا من أيام في هذه المسخرة الكبرى التي نسمّيها حياةً سعيدة أيها السادة.
لكن رغبة صارت طاغية الآن، وهي حديث لا ينتهي إلى محمد حشيشو وسناء الدبّاغ، الوالدين الحبيبين لرفيقنا الحبيب، وصار التأمل في هذه الشجرة الطيّبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء حديث كلّ رفاق عماد وأحبته.
وإذا كانت الوالدة الحبيبة سناء لم توفّر دمعة وصوتاً على ولدها الراحل إلى حيث نعلم أو نظنّ أننا نعلم، ثم أدهشت جمع الأصدقاء المعزّين بإبدالها البكاء بما حفظت من أغاني الثورة والسخرية متمايلة على أنغام عود سامي حوّاط وباقي الرفاق ومعزّية من جاؤوا يعزّونها بصوت شجيّ زاد التدخين من سحره، فإن الوالد الحبيب محمد قد أسر قلوب الجمع بوجه صلب يختزن في ملامحه السمراء نضالاً صلباً عتيقاً تفضحه رغماً عنه عينان دامعتان بخفر، وقبضة ترتفع مرتجفة وهو يردد مع رفاق عماد «نسلك طريق ما لوهش راجع والنصر قرّب من عينينا».
«عسى أن يكون قد ساهم بقطرة في نهر الإنسانية العظيم» بهذه الكلمات المرتجلة، وبشفتين مرتجفتين وعينين صلبتين تختصر حمرتهما كلّ ما في الدنيا من وجع، نعى الشيوعي العتيق محمد حشيشو ابنه عماد أمام جمع كبير من الأصدقاء والموسيقيين والمسرحيين في تجمّع أقيم في بيروت الأربعاء، كشف كمّ أن عماد كان حلقة وصل خفيّة بين أجواء مختلفة متضاربة متباينة وربّما متصارعة، في الذائقة الموسيقية ونمط العيش والفكر السياسي، ليخرج صديقنا المخرج هشام جابر عن صمته الحزين في لحظة اختلطت فيها عنده الفاجعة بالسخرية وشيء من الكحول ويصرخ: «يا ناس، الحشيشو لكلّ الناس!».
في الأيام الماضية، اكتشفنا جميعنا أن الدائرة التي تعرف عماد أوسع مما كان أي منّا يتصوّر، لكن قلّة منا ربّما تعلم من أين تفرّع هذا الغصن الذي أزهر فنّاً وطرباً ومزاجاً عالياً وصلابة في شقّ طريقه، واستهزاء بالدنيا وما حوت، وشوقاً لمعرفة أسرار وجودها ومن أوجدها.
عماد هذا هو ثمرة عائلة امتهنت النضال السياسي من بابه المودي إلى الفقر والاضطهاد، ودافعت بالدم عن صيدا، ولمّا راح الاحتلال، انكفأت إلى الخدمة الصامتة والدفاع عن قضايا الفقراء.
عماد هذا الذي شاهدناه عازفاً ومغنياً في أي عرض موسيقي أو مسرحي لا يبتغي الربح بقدر ما ينشد الفرح والطرب والثورة والتمرّد وتحدّي مأساة الحياة، إنما هو ابن هذه الشجرة التي ما زالت تبحث في جذور الأصالة عن معان متخيّلة للمستقبل.
عماد هذا الذي ربّاه والداه على الثورة لم يوفّرهما من ثورته، فكان ابنهما حتى في تمرّده على رغبتهما في أن يبحث عن استقرار وظيفي أو تقدّم دراسي.
نهل عماد من هذه الدنيا حتى شبع وغادرها كما شاء، فيما نحن نعدّ الأيام لا نحصي لتوالي الليل والنهار وتعاقب السنين عدداً.
عماد هذا الذي أضحك كثيرين وأبكى كثيرين، إنما هو ثمرتكما يا سناء ويا محمد، وقد شاء القدر، أو الطبيعة كما تسمّيه، أن يضع اللمسات الأخيرة على ملامحه، ليصبح خلقاً تامّاً وبضاعة كاملة.. .هي بضاعتكما يا محمد وسناء، وقد ردّت إليكما قمراً مكتملاً كان ينبغي أن يغيب حتى نراه ونرى بعضنا بعضاً.