ديترويت | تحمل جولة مارسيل ورامي وبشار خليفة في الولايات المتحدة معاني مختلفة في ظل ترقب سياسي واجتماعي تعيشه الجالية العربية هناك بسبب مخاوف من صعود نبرة عنصرية مع انتخاب الرئيس الجديد. الجولة التي نظّمتها «الجمعية العربية الأميركية لمكافحة التمييز»، بدأت في السابع من الشهر الحالي من الساحل الشرقي: نيويورك وواشنطن وبوسطن، ثم انتقلت إلى شيكاغو وديربورن، وصولاً إلى الساحل الغربي: سان فرانسيسكو ولوس أنجلس، وعودةً نحو الجنوب في مدينة هيوستن حيث يمكث الموسيقيون لبرهة.
جمهور كبير انتظر مارسيل ورامي وبشار. جمهور متنوع ليس بالضرورة عربياً أميركياً. بعضه جاء يردد مع مارسيل أغنيات دخلت تراثنا الموسيقي مثل «يا بحرية»، «ريتا»، «جواز السفر»، وبعضه شبابي انتظر رامي وبشار اللذين كرّسا صوتهما المستقل، ولكن المتناغم ضمن التريو الذي فتح باباً جديداً من التجربة الموسيقية الشرقية-الغربية منذ انضمام الابنين عام 2011 إلى فرقة الميادين التي أسسها مارسيل في أواخر السبعينات وانطلاق الثلاثة في مغامرة إبداعية امتدّت على قارات عدة. أما الجمهور الأميركي الذي ليس من أصول عربية فقد اكتشف عمق ورصانة ورهافة هذه الموسيقى القادمة من أرض الشرق الأوسط الدامية.
بعد تكريم التريو في «المتحف العربي الأميركي» في ديربورن في ليلة شتائية عاصفة، كانت حفلة في «مركز فورد للعروض». مارسيل بلباسه الأسود والشال الأحمر حمل كثيرين إلى أوطان خلف المحيط، أعاد ذكريات شخصية أو عامّة، أشعل المسرح المدرّج بمشاعر متناقضة لأناس انخرطوا وينخرطون بدرجات متفاوتة في الحياة الأميركية. بعوده الآتي من زمن آخر قديم - حديث، كان حضوره خافتاً وخفراً، كترتيلة في كنيسة منعزلة على سفح جبل، ثم ما لبث أن انفجر نهراً من انفعالات: غزل ثم غضب، حب ثم ثورة، ألم وأمل ويأس وتعب ثم خفة ومرح. من «أندلس الحب» و«أعدّي ليّ الأرض كي أستريح» إلى «يا بحرية»، تفاعل الحضور مردداً أغنيات ضاربة في الشعر والذاكرة. إنه مارسيل الذي لا يشيخ ولا ينفك يفتح التجربة على المجهول الأجمل، ينقلنا من الجدية التامة ومن حالة الصلاة الخاشعة إلى خفة الصبي المنتظر عند إشارة المرور في «يا بوليس الإشارة»، ثم يمسّد بريشة عوده المشتعلة جسد امرأة الخيال الكثيفة الحضور. بشار بصوته العميق، الهادر حيناً والهامس حيناً آخر صنع للكلمات معاني جديدة كما في «كانت الحلواية»، و«ليلى البدوية»، مضفياً بعداً جديداً شديد الاختلاف عن رامي المنزوي في عالم من لعب محسوب لا ينتهي مع البيانو عازفاً بيديه وجسده موسيقى طازجة وحقيقية. كان مارسيل «يعدّ الأرض» بأنغام معروفة لتجربة ولديه الحديثة، يدع العود يغفو لتبرز الأصوات الأخرى وتذهب في مجراها نحو الأقصى ثم يستجمع كل شيء فجأة، ويعيد نسجه في بوتقة واحدة كقائد أوركسترا. لا شك في أنّ ثمة مارسيل خليفة مختلف ضمن التريو. هناك نضج وعمق روحي وانفتاح ومنابع جديدة للوحي. هناك أبوة أيضاً. الأغاني القديمة ليست نفسها لأن الزمن ليس نفسه. بدا مارسيل متخففاً ومنطلقاً وغير مكبّل بالايديولوجيا رغم أن قصائد محمود درويش ما زالت هي نفسها، ويعود جزء من ذلك إلى ابنيه اللذين ضخّا زخماً شبابياً قوياً. أما الجزء الآخر فيعود إلى مارسيل نفسه المنساب كالدم في جسد الموسيقى. «أتركوا كل شيء واتبعوني» قال مارسيل ذات ليلة شتائية من ليالي ميتشيغان الباردة، فسار معه الجمهور «حباً وطواعياً» نحو فاكهة الكلام والنغم.