أفكر دائماً في محمد خان كما أفكر في شعراء قصيدة النثر وأحسبه منهم، فيما أفكر في مجايليه عاطف الطيب وداوود عبد السيد كروائيَّين، يفضلان دائماً الاشتغال خلف تقنيات سردية والاختباء وراء استعارات وحكمة الراوي العليم. أما هو، فظل محتفظاً بما يتيحه المجاز وبما تقدمه «التفاصيل الصغيرة» من ثروات شكلت عالمه الفريد. أرى أفلامه في سياقها التاريخي وهي تمهد الطريق للشعر الذي كان قبل سنوات الثمانينيات في الهامش، وبات اليوم في المتن. تتشابه سينما خان مع القصائد التي كتبها الشعراء الخوارج، فيها الإلحاح على النبرة الخاصة والرغبة في تأكيد علامات شخصية تبدو كنُدَب صغيرة أو نقوش على دانتيلا في قميص نوم امرأة ترملت باكراً. في أفلامه يحتل الصوت مكانة مركزية، دائماً هناك أغنيات في الخلفية أو أصوات للزحام. زمن معطل يريد إعلان نفسه، ومرثيات تحسبها مؤجلة لكنها راغبة في الاستيقاظ. هنا لا يختلف خان عن الشاعر اليوناني كفافيس الذي كان شيخاً للإسكندرية في رؤية العالم، والرغبة في مراقبة الزوال بعين شاعر المدينة ومؤرخها الذي يرثي ماضيها. ووفقاً لهذه الرؤية، يمكن النظر إلى محمد خان بوصفه راوي القاهرة الأول. كانت لديه عين مجبولة بالدهشة شكلت نظرته إلى مدينة القاهرة التي يُعَدّ مؤرخها الخاص بامتياز، إذ نادراً ما تخلو أفلامه من التجوال في الشارع. ومن يعيد النظر إلى ما قدمه، يصعب عليه أن يتفادى المسافات التي قطعها في جغرافيا القاهرة من أقصى جنوبها في حلوان التي تشكل فضاء رئيسي في «ضربة شمس» (1978) و«بنات وسط البلد» (2005)، و«فتاة المصنع» (2013)، وصولاً إلى «مصر الجديدة» في فيلم «في شقة مصر الجديدة» (2007) أو ميادين القاهرة وقاعها في «الحريف» (1983) أو «أحلام هند وكاميليا» (1988). في هذه الأفلام وغيرها لا يحضر المكان إلا بغرض مقاومة الزوال والإلحاح على علامات الذاكرة الخاصة التي بدأها في حيّ عابدين حيث عاش طفولته، قبل أن يغادر إلى لندن. حين عاد، أدرك صاحب «الرغبة» أن هناك مدينة أخرى تولد في خضم معارك السبعينيات وأن هناك أجساداً تقمع لمصلحة ثقافة وافدة مع أموال البترودولار. وفي سعيه للمقاومة لم يلجأ خان إلى الصخب بقدر ما حاول المقاومة عبر استعادة الأصوات التي رسمت معالم مدينته، مع صوت عبد الحليم حافظ في رائعته «زوجة رجل مهم» (1987) ومع الكروان وأحمد عدوية في «خرج ولم يعد» (1984). كانت كاميرا خان مثل قدم المتسكع في نصوص شارل بودلير أو هنري ميللر، أحب صاحبها ما يقدمه «العطاء اليومي» للحياة واستثمر فيه عبر بعث ما هو هش ومهمل. ساعدته على هذا وأكملت رؤيته النصوص السينمائية التي كتبها معه عاصم توفيق ورؤوف توفيق بما فيها من حسّ شعري بالعالم. ثم جاءت الأفلام التي كتبتها زوجته وسام سليمان لتحافظ على هذا الاتجاه ولتؤكد فيه الحس الإنثوي الذي كان طاغياً منذ بدايات أفلامه التي يسهل فيها أيضاً إدراك تعاطفه البالغ مع النساء ومجاهداتهن في هذا العالم. تعاطف لا يمكن اعتباره انحيازاً تقدمياً فحسب، بقدر ما هو موقف إنساني بالأساس، يقوم على احترام الضعف الإنساني. بهذا المعنى انحاز خان إلى هند وكاميليا وإلى الأحلام الصغيرة، وانحاز أيضاً إلى مهن كانت هامشية مثل «حلاق النساء» في «موعد على العشاء» (1981) الذي يتحول فيه الصوت إلى معطى شعري تواصل مع اهتمام خان بالمهنة التي تتكرر في أفلامه ربما على سبيل الشغف بالعلاقات الحميمة والمكبوتة في الأسرار الخاصة التي يمكن أن تجمع امراة مع حلاقها. علاقة تعتمد اعتماداً خاصاً على الحواس، تأملها خان بنحو مدهش وهو هنا أيضاً لا يفارق علامات العالم الشعري لكفافيس الذي كان مثله أيضاً شغوفاً بمعنى الرحلة. وإذا كان كفافيس قد خلد بأشعاره رحلة البحث عن ايثاكا، فقد وضع محمد خان أبطال أغلب أفلامه («ضربة شمس»، «طائر على الطريق»، «في شقة مصر الجديدة») في هذا المضمار، فكل أبطاله وبطلاته دخلوا تحدي اكتشاف الرحلة، ليس سعياً إلى الوصول، بل رغبة في امتلاك نشوة المحاولة تمثلاً لقول صلاح جاهين «أنا اللي بالأمر المحال اغتوى/ شفت القمر بصيت لفوق في الهوا/ طلته ما طلتوش/ ايه انا يهمني/ وليه ما دام بالنشوة قلبي ارتوى».