رام الله | الاشتغال على المأزق الوجودي والشرط الإنساني واشتباكه مع التاريخ والسياسة والاعلام هو أحد المداخل الفنيّة لمعرض "شاشة صامتة" (2015) للتشكيلي الفلسطيني بشار الحروب، الذي اختُتم أمس في «غاليري 1» في رام الله. المعرض الذي يجمع لوحات أنجزها الحروب خلال العام الماضي، ينهض على بحث تاريخي وقراءة واعية لمصير النفس الإنسانية واحتراقها وعذابها الداخلي؛ ويوظّف المفارقة البصرية والألوان الفاقعة والسخرية السوداء لشحن فضاء اللوحة بأسئلة تتعلّق بالبؤس والقتل على الهوية والحرب التي تشهدها البلاد العربية. وهذا العمل هو سَبرٌ جمالي لتساؤلاتٍ عميقة حول قيمة حياة الإنسان ومدى حريته؛ ويأتي بعد معرض "اللامكان" (2014) الذي اشتغل فيه الحروب على مفهوم الاقتلاع ودور الميديا في ابتذال شتات اللاجئين السوريين، وتثبيت صورهم داخل إطار الشفقة والاعانات الخيرية.
يوظّف المفارقة البصرية والألوان الفاقعة والسخرية السوداء

في "شاشة صامتة"، نشاهد أفراداً وحشوداً من الأجساد الناحلة المتهالكة التي برزت عظامها ومحاجر عيونها. ملامح الفاجعة في وجوهها تذكّرنا بوجوه الأسرى في معسكرات الاعتقال النازية وأطفال المجاعة في الصومال وضحايا حرب فيتنام. إن اللوحة التي تنطلق من المأساة العربية سرعان ما تنفتح على تجربة وهموم إنسانية أوسع، لتقول لنا إن ملامح الإنسان في الحرب والفقر والبؤس تشبه بعضها بعضاً، ولتشير إلى سخرية التاريخ الذي صار يُعيد نفسه عبر أدوات "الديجيتال" والتكنولوجيا الحديثة وينشر صور وفيديوهات المجازر والاعدامات عبر الاعلام بكافة أشكاله. إن الأفراد الذين يتمسّكون بالرمق الأخير من الحياة في لوحة بشار، هم أيضاً شهودٌ على القتل والتطهير العرقي والديني الذي يجري في أيّامنا تحت الأضواء ويوثّق بأحدث الكاميرات والمؤثرات الصوتية. شهاداتهم تأتي في إطار مشهدية سينمائية تظهرُ من خلال أوضاعهم وتعابيرهم الجسدية وألوان "البوب" (Pop) التي رُسموا بها، والخلفيات اللونيّة الساطعة والبرّاقة التي يقفون أمامها. خيار بشار في رسم الضحايا بألوانٍ جذّابة للبصر هو دعوة للمتلقي بالتشكيك ونقد الصور النمطية التي تصلنا من مناطق النزاع والحروب، والتي تُركّب وتُخرجُ في قوالب أفلام الاثارة والأكشن.
الاشتغال على المفاهيم والترميز ينبع أحياناً من العقل الباطني الذي اختزن قصصاً ومروياتٍ أُسطورية ودينية تصوّر المأساة الإنسانية وتستخلص منها الحكمة. وفق هذه المعادلة يمكننا قراءة جنس الحشود والأفراد الذين نشاهدهم عُراة لكننا لا نعرف إن كانوا ذكوراً أم اناثاً. ويُخيّل إلينا أنهم خرجوا للتو من جحيم دانتي، أو أنهم يستعدون للعودة إليه. ونشاهد في إحدى اللوحات حشوداً شاحبة كأنها تقف ذليلةً خاضعةً في يوم الحشر. ونشاهد أيضاً التفاحة التي ترمز إلى خطيئة الإنسان الأولى وهبوطه من الجنّة، وهي توظّف هنا في سياق تاريخي. إذ نرى جندياً ناحلاً، وخوذة الحرب العالمية على رأسه، يحمل طفلاً في حضنه تفاحةٌ. هذا الطفل الذي تنتظره أعباء بناء ما دمّرته الحرب، والتصالح مع الذاكرة ولحظاتها المؤلمة والقاسية، لعلّه هو "الشاشة الصامتة" والصفحة البيضاء التي ما انفكت الحرب تكتب عليها تواريخها وأسماء ضحاياها وترسم عليها صورهم.


www.galleryone.ps