كيف هو البيت بلا رضوى؟ صمت قليلاً ثم قال «لم يعد بيتاً، أصبح مكاناً فيه ذكريات». كانت الروائية والناقدة والأكاديمية رضوى عاشور تحوّل أي بيت مع زوجها الشاعر مريد البرغوثي وطناً صغيراً وعنواناً له. كانت نواة الأسرة الصغيرة وأساس تكوينها. بعد رحيلها، لم يعد الشاعر الفلسطيني الشهير يسمّيه بيتاً لأن الوحشة تطغى عليه.
كانت رضوى عاشور الأب والأم لابنها الشاعر تميم طوال 17 عاماً بعدما نفى نظام السادات زوجها خارج البلاد. بقيت وتميم ذو الخمسة أشهر في مصر. ربّته (الكلام لمريد) بصفة مصرياً وفلسطينياً، و«جزء كبير من «فلسطينية» تميم من صناعة رضوى «المصرية»». سيّرت لابنها الجلوس مع أقربائه الفلسطينيين في الأردن، مع نساء وشيوخ من قريته «دير غسّانة». صار يتحدّاهم بتأليفه العتابا والميجانا باللكنة الفلسطينية التي يتكلم بها، مما أثار استغرابهم ودهشتهم. لم يكن قراراً سهلاً للوالدين عندما حسما موقفهما وقررا أن ابنهما يجب أن يكتسب تعليمه في مدارس عربية. كان متاحاً له التعلّم في مدارس أوروبية، لكنهما أرادا له نشأة عربية تساعده على تنمية قدرته على التعبير التي بدت جلية منذ صغره. كان قرارهما صائباً جداً بما أدهش به الشاعر تميم والديه بأعماله الشعرية المحكية والفصحى. ولا يخفى على أحد قصيدته الشهيرة «في القدس».
خلال إحياء ذكرى رضوى عاشور قبل أيام في بيروت بدعوة من «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي»، لججنا على الشاعر تميم بالحديث لنا، لكنه لم يستطع الكلام، تركه لأبيه. الوالد كان يداري محبة الناس التي لفّتهما، لكن حزنه كان يغرقه إلى داخله دون أن ينتبه أحد. حين زار فلسطين المحتلة، لم تأت معه. للشاعر مريد فلسطين هي وطنه الذي يريد دخوله بأي طريقة. أما لرضوى فكانت قضية تطبيع ومقاومة. احترم قرارها حتى النهاية. أما عاشور، فقادت حملة مقاومة التطبيع بعدما وقع الرئيس المصري أنور السادات معاهدة السلام مع العدو الإسرائيلي. اجتمعت بعد أربعة أيام بزميلتها الروائية الدكتورة لطيفة الزيّات للقيام بالحملة. وبذلك خلقت حالة شعبية رافضة للتطبيع الذي قامت به الدولة. وكما فلسطين، شاركت رضوى لبنان وشعبه في معظم منعطفاته التاريخية المعاصرة من اجتياح الـ1983 إلى عناقيد الغضب والأحداث الأخيرة. كانت حاضرة دائماً لتُشعر الناس أنها قريبة منهم وتساندهم في أي شيء. وكانت أول رواية لها «الرحلة: طالبة مصرية في أميركا» طُبعت في دار بيروتية هي «دار الآداب». وتجد في بيروت أصدقاءها وزملاءها ومحبيها من الروائيين والأكاديميين والنقّاد. وكانت تأتي مراراً لحضور الندوات والمحاضرات التي تكون شريكة فيها.
زارتنا رضوى في بيروت، ليل الخميس الماضي، بطيفها ليكرّمها «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» في قاعة أنطوان حرب في قصر الأونيسكو. جمعت عائلة بيروتية وعربية واستقبلتها بابتسامة هادئة في صورتها التي لا يخال الناظر إليها أن صاحبتها راحلة أبداً.
تحدّثت المؤرخة الفلسطينية بيان نويهض الحوت عن رضوى الروائية المبدعة، المناضلة الجريئة، والأم المثالية. وبأسلوب شيّق مفعم بالحياة يشبه رضوى، تحدثت عنها. كان لقاؤهما الأول في القاهرة ربيع 1983 أثناء اجتياح العدو الإسرائيلي لبيروت. أدهشتها بأسئلتها التي تحتاج شجاعة لطرحها وشجاعة مماثلة للإجابة عليها. التقيتا بعدها في بيروت وفي كل رواية تكتبها. رفضت الحوت وداع رضوى: «لا وداع لا وداع». وختمت بوعد لها أن تستمر في طرح أسئلتها الشجاعة والبحث عن إجاباتها.
بدورها، وصفت الكاتبة والناقدة اللبنانية يمنى العيد نشاط رضوى وحيويتها. كانت بالنسبة إليها المرأة الفائقة الحضور، الأنثى الجريئة، والمؤمنة بالثورة. لخّصت رواياتها الأشهر وتحدّثت عن «الطنطورية»، معتبرة إياها الجدّة الحداثية التي تكتب لتحكي عن ضياع تاريخ وتضييع هوية. ختمت العيد كلمتها لعاشور بوصفها الإنسانة التي لا يغيّبها الموت.
أما الأكاديمي اللبناني لطيف زيتوني، فحدّد هوية صاحبة ثلاثية «غرناطة» وانتماءها بما عرّفت هي عن نفسها: «إمرأة عربية من العالم الثالث». رأى فيها المرأة الصّلبة والمناضلة الملتزمة بالعدالة. وصف كتاباتها بسرد الذاكرة وكيف تتداخل حياتها بحياة الآخرين.
«سيدة كل العصور، تتحدث باسمك وتتمسّك بالحياة من أجلك» هكذا بدأت الاقتصادية والسياسية الأردنية ريما خلف رسالتها لأم تميم. شاركتها ذهولها بصور أطفال الحجارة في فلسطين أمام دبابة العدو وغطرسته. اعتبرته جنوناً جميلاً بالطبع لأن اللحظة أجمل من حياة ممتدَّة في العجز والهوان.
الكاتبة الفلسطينية جين سعيد المقدسي استعادت علاقة عاشور بطلابها وزملائها الذين أحبوها محبة خاصة. لا مغالاة في كلامها، فكانت عاشور عندما تفيق من المخدّر أثناء نكساتها الصحية، تسأل عن «العيال» في ميدان التحرير. شجعت طلابها على الفكر المستقل ورحّبت بالأفكار الجديدة والباحثين الشباب.
ختم الشاعر مريد البرغوثي الأمسية ملقياً كلمة العائلة بالقصيدة التي ألقاها في «جامعة عين شمس» في كلية الآداب في القاهرة قائلاً:« مَن ينشغل بحزنه على فقد المحبوب ينشغل عن المحبوب. الآن أطلب من حزني أن يتجه إلى أقرب بوابة ويغادر هادئًا كما أشاء أو هادرًا كما يشاء، لكن دون أن يلفت الأنظار».