القاهرة | اختار المخرج المصري الشاب تامر كرم الشكل الموسيقي الملحمي ليقدم رؤيته لمأساة انتيغون، إحدى أشهر الشخصيات التراجيدية في تاريخ المسرح. «هنا انتيغون» الذي يعرض على خشبة «الطليعة» في القاهرة حتى 15 أيلول (ستمبر)، بإعداد يجمع بين نص سوفوكليس، ونص جان أنوي الذي حمّل الأسطورة أبعاداً سياسية أخرى، مع إضافة «هنا»، ليربط المشاهد بين المأساة الإغريقية الشهيرة وواقع يطرح نفس إشكالية سؤال الدم والحق في معارضة الحاكم وأثر القمع في تدمير الأمم. نحن أمام إسقاط سياسي على ما تشهده القاهرة، مع أن العرض لم يبتعد في مشهد أو جملة عن عالم الأسطورة التي بُني عليها.
تدور أحداث الأسطورة في مدينة طيبة. ما لا يقدمه العرض أن أنتيغون هي استكمال لمأساة أوديب الشهيرة، فهي أحد أبنائه الأربعة. بعد وفاته، يتفق ولداه «إيتيوكليس» و»بولينيس»على تداول الحكم. لكن الأكبر يرفض تنفيذ الاتفاق ويتحالف مع خاله ضد أخيه، فيستعين الأخير بحلفائه، ويقتل الأخوان كل منهما الآخر، فيؤول العرش إلى خالهما «كريون». يُشيّع الأخير جثمان حليفه إيتيوكليس بإجلا‌ل، ويأمر بعدم دفن بولينيس لتنهش جسده الوحوش، ويتوعد من يخالفه بالموت الرهيب.

هنا تبدأ حكاية أنتيغون التي ترفض أوامر الملك، وتقيم لشقيقها شعائر تشييعه الدينية، رغم محاولة أختها أسامي ثنيها عن قرارها خوفاً على حياتها. يحكم كريون عليها بالدفن حية في قبر صخري، رافضاً استعطاف ابنه خطيبها هيمون، فيقتل نفسه عند قبر حبيبته، وتتبعه أمه لتطال دائرة المأساة كريون نفسه.
انحاز المخرج للاختيارات الأصعب في كل عناصر عرضه، سعياً وراء تحقيق رؤيته الفكرية والجمالية، مقدماً حالة انسانية ووجدانية آسرة بدءاً من الأداء الموسيقي والغناء الحيّ على المسرح، بينما الفرقة وراء ستارة شفافة في عمق الخشبة وفى أعلى مستوى لها، لتطل على الأحداث، وتمثل جزءاً من بناء العرض وديكوره. وأمامها، في مستوى أقل ارتفاعاً، وقف الكورال على الجانبين، كمعادل للجوقة اليونانية القديمة، وكمعبر عن شعب المدينة.
فريق العرض تشارك في الغناء والتمثيل والأداء الحركي، على ألحان متميزة للموسيقي الشاب وليد غازي، عكست الحالة المأساوية للعرض وحافظت على تدفق الصراع الدرامي وحيويته. جاء ذلك بالتناغم مع الحركة والاستعراض (تصميم محمد جابر) كمكون درامي أساسي في نسيج العرض، مكملاً دور التمثيل والغناء، لتكتمل الحالة الملحمية.
اختيار الالوان والملابس جاء بالبساطة الآسرة نفسها. احتفظ الملك بزيه الملكي طوال العرض، وارتدت أسامي أخت انتيغون، الأحمر، والبطلة أنتيغون، فستاناً أسود بسيطاً موشحاً بوشاح رمادي.
اختار كرم فريق ممثليه بدقة، الملك كريون هو علاء قوقة، الذي أبدع في تقديم الحالات المختلفة للفائز بالعرش، من الحازم الى المستبد العنيد فالأب المفجوع بانتحار ابنه، وزوجته التي حملته دم ابنهما. راهن المخرج على شباب اغلبهم طلبة في عامهم الاول في معهد الفنون المسرحية، أبرزهم: هند عبد الحليم، محمد ناصر، رحاب خليل، وأحمد عبد الفتاح. أجاد هؤلاء تمثيلاً وغناءً، وساهمت وجوههم الشابة، الطازجة، في ترسيخ حيوية العرض.
على مستوى الإتقان نفسه، جاء ديكور محمود صبري. على جانبي خشبة المسرح، رأينا قماشة بيضاء، وخلفها تنويعة من ماسكات الوجوه، وأجساد تتحرك من خلفها، كأنها أرواح الاجداد شاهدة على ما يحدث، أو صرخات مكتومة لأهل المدينة المعذبين باستسلامهم لجبروت الملك. وفي القلب، سلالم بسيطة، تنقل الأحداث إلى مستوى أعلى. وحين تُفتح، نرى خلفها الفجوة التي تسجن فيها انتيغون حتى الموت، وينتهي العرض والملك حبيس فيها، تعبيراً عن السجن الداخلي الذي وضع نفسه فيه.

«هنا انتيغون»: حتى 15 أيلول (سبتمبر) ـ «مسرح الطليعة» ــ 00225937948