للمرّة الأولى منذ قيام الكيان الإسرائيلي عام 1948، اتخذت هيئة قضائية دولية خطوة عملية واضحة لمساءلة إسرائيليين.الإعلان عن المذكرة التي رفعها المدعي العام الدولي كريم خان الاثنين الفائت، ويطلب من خلالها من هيئة القضاة اصدار مذكرات توقيف بحق بنيامين نتنياهو (رئيس الوزراء الإسرائيلي) ويؤاف غالانت (وزير الدفاع الإسرائيلي) كان مدوّياً. لكن، لا بد بداية من التوضيح بأن هذه الخطوة:

1. متأخرة
بعد ثمانية أشهر من تمادي العدو الإسرائيلي في ارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة المحاصر، وبعد 75 سنة من القتل والاحتلال والتهجير والتعذيب والتجويع والاغتصاب بحق البشر في فلسطين والمشرق العربي؛



2. ناقصة
كريم خان ذكر بعض جرائم الحرب وبعض الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل، لكنه اغفل الإشارة الى جرائم الإبادة الجماعية. وفي سياق عرضه لبعض جرائم الحرب، تناسى خان الإشارة الى استهداف المستشفيات والاسعافات والطواقم الطبية وموظفي الأمم المتحدة والصحافيين بشكل متعمد، كما تناسى آلاف المدنيين الفلسطينيين المعتقلين الذين يخضعون لأبشع أنواع التعذيب والاذلال والتنكيل على أيدي الاسرائيليين. وفي سياق عرضه لبعض الجرائم ضد الإنسانية، تجاهل خان كذلك جرائم الابارتايد والاعتقالات التعسفية والحط من كرامات الناس الإنسانية.

3. انتقائية بشكل مشبوه
صحيح ان الاجراءات القضائية يمكن ان تكون انتقائية لأنه لا يمكن اصدار مذكرات توقيف بحق كل المشتبه فيهم دفعة واحدة. لكن بما ان القضية تشمل، بحسب خان، جرائم حرب يرتكبها الجيش الاسرائيلي، لماذا لم يطلب اصدار مذكرة توقيف بحق رئيس اركان هذا الجيش، وهو الآمر والمشرف المباشر على ارتكاب الجرائم في الميدان؟
أما بشأن طلب خان اصدار مذكرة توقيف بحق اسماعيل هنية بصفته رئيس المكتب السياسي لحركة حماس فتبدو انتقائية بامتياز، وربما بدوافع سياسية اقليمية، إذ ان هنية مسؤول سياسي لا يشرف مباشرة على العمل في الميدان، وهو اصلاً موجود خارج القطاع. ولو أراد خان ان يكون متوازناً، ولو شكلياً، لطلب، بموازاة اصدار مذكرة توقيف بحق هنية، إصدار مذكرة مماثلة بحق الرئيس الإسرائيلي اسحق هيرتسوغ.
لكن، رغم كل ذلك، من الافضل ان تأتي هذه الخطوة متأخرة وناقصة وانتقائية من أن لا تأتي أبداً.
■ صحيح ان المحكمة الجنائية الدولية تتلقى العديد من الشكاوى بشأن الارتكابات الجرمية الإسرائيلية في فلسطين المحتلة منذ 2008 (مباشرة بعد توقيع السلطة الفلسطينية على نظام المحكمة - اعلان روما الأساسي)؛
■ وصحيح انها لم تباشر في التحقيق الا بعد اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بفلسطين كدولة (غير عضو) بصفة مراقب عام 2012 وبعد العدوان الإسرائيلي المتجدد على الفلسطينيين عام 2014؛
■ وصحيح ان المحكمة الجنائية الدولية لم تتخذ أي خطوة جدية للتحقيق مع إسرائيليين منذ 2008؛
■ وصحيح ان المدعين العامين الدوليين من لويس مورينو اوكامبو الى فاتو بنسودا الى كريم خان ماطلوا في اجراء التحقيقات اللازمة واعتمدوا معايير مزدوجة، إذ ان المحكمة الجنائية الدولية تحرّكت سريعاً لإصدار مذكرات توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس السوداني عمر البشير بينما راوغت لتأجيل التحقيق في الارتكابات الإسرائيلية وماطلت لسنوات طويلة بينما لم يتوقف الاجرام بحق الفلسطينيين يوماً واحداً؛

انقلاب القانون على «القواعد»
طلب المدعي العام كريم خان اصدار مذكرات توقيف بحق بنيامين نتنياهو ويؤاف غالات يشكّل انقلاباً تاريخياً على «النظام الدولي القائم على القواعد» (International Rules Based Order) الذي أعلنت الولايات المتحدة تقديمه على «قواعد القانون الدولي» (راجع «القوس»: استبدال الاميركيين القانون الدولي بـ«النظام الدولي القائم على القواعد»).

كيف؟
أساس «النظام الدولي القائم على القواعد» ينطلق من استخدام القواعد التي وضعها «الرجل الأبيض» في الولايات المتحدة، والغرب عموماً، لخدمة مصالحه وحمايتها. منظمات ولجان ومجالس حقوق الانسان مثلاً، تنشط كثيراً وتحظى بدعم دولي وتغطية إعلامية واسعة عندما يتعلّق الموضوع بالاحتجاج على ممارسات في دول الجنوب والدول الإسلامية، والدول الفقيرة التي لا تحظى برعاية أوروبية او أميركية. اما تجاوزات حقوق الانسان في الولايات المتحدة (حيث اكبر انتاج وتصميم لأدوات القتل والحرب والدمار وحيث بلغت معدلات الجريمة أعلى المستويات في العالم) وفي العديد من الدول الاوروبية و«إسرائيل» التي تتبناها وتحميها الولايات المتحدة وتدعمها بمليارات الدولارات سنوياً، فلا يجوز اميركياً المطالبة بمحاسبة المسؤولين فيها.
ها نحن اليوم نشهد، للمرة الأولى، إجراءات تتخذها محكمة جنائية دولية بحق اشخاص يحظون بحماية ورعاية ودعم الولايات المتحدة والعالم الغربي. هي المرة الأولى التي يكون فيها «رجل أبيض» (نتنياهو وغالانت) في قفص الاتهام الدولي. فهل يعني ذلك ان الغرب لن يقبل بعد اليوم بالإسرائيلي «رجلاً ابيض» بسبب إعادة تصنيفه؟ أم ان الغرب سيتنازل عن مشروع «المحكمة الجنائية الدولية» الفتي (منذ عام 2002) بسبب تضييعه «بوصلة» شمال الأطلسي؟

ثلاثة احتمالات
يبدو ان القضية باتت وجودية وتستدعي تدخلاً أميركياً للضغط على قضاة الدائرة التمهيدية في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لحضّهم على رفض طلب كريم خان إصدار مذكرات التوقيف بحق نتنياهو وغالانت.
إزاء ذلك يبدو ان هناك ثلاثة احتمالات:

■ تتراجع المحكمة عن هذه الخطوة الانقلابية التاريخية وتؤكد رضوخها لـ«النظام الدولي القائم على القواعد». وفي هذه الحالة، يمكن مثلاً للقضاة رفض اصدار مذكرات بحق نتنياهو وغالانت لعدم كفاية الدليل، وفي المقابل إصدار مذكرات توقيف بحق هنية والسنوار والضيف واطلاق حملة دولية واسعة لاعتقالهم.
هذا الاحتمال الأول يضمن بقاء المحكمة و«ازدهارها» وزيادة تمويلها ومضاعفة دعم الاتحاد الأوروبي لها وربما رفع صور قضاتها في مظاهرات المستوطنين الإسرائيليين الذين يمنعون دخول الطعام والدواء الى أطفال غزّة.

■ الاحتمال الثاني هو قبول قضاة الدائرة التمهيدية طلب كريم خان، وبالتالي اصدار مذكرات توقيف دولية بحق نتنياهو وغالانت وقادة حركة حماس الثلاثة. ويشكل ذلك، كما ذكرنا آنفاً، تثبيتاً لانقلاب المحكمة على «النظام الدولي القائم على القواعد»، ودفعاً قوياً نحو اطلاق حملة سياسية وإعلامية أميركية وأوروبية ضخمة لمواجهتها. ولا شك في ان هكذا حملة ستزيد من الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي، وسترفع حدّة الاحتجاجات في الجامعات، خصوصاً في كليات الحقوق في الجامعات حيث لا شك في ان القانون الدولي ينبغي أن يتفوّق على «النظام القائم على القواعد».
الاحتمال الثاني سيعرّض المحكمة وموظفيها لهجوم واسع النطاق من قبل مؤيدي اسرائيل، وقد يؤدي الى اضعافها وتقويضها وربما الى سحب بعض الدول الموالية لإسرائيل توقيعها على نظام روما الأساسي.

■ الاحتمال الثالث هو تريّث قضاة الدائرة التمهيدية وتأخير حسمهم إصدار مذكرات التوقيف بحق نتنياهو وغالانت لفترة من الزمن تلي صدور قرار محكمة العدل الدولية (أمس) الذي أمر إسرائيل بوقف هجومها الحربي على غزة والانسحاب منها افساحاً للمجال امام طواقم الإغاثة والاسعاف للقيام بواجباتهم الإنسانية.
الاحتمال الثالث قد يؤدي الى قيام تحالف تنضم اليه العديد من دول اميركا الجنوبية وجنوب افريقيا وبعض الدول الأوروبية دعماً للمحكمة الجنائية الدولية، وقد تتعمّق الخلافات الدولية.
أما بشأن مذكرات التوقيف بحق هنية والسنوار والضيف، فمعروف انها تساوي بين الجلاد والضحية، لكن لا يبدو انها تؤثر على هؤلاء القادة الثلاثة الذين اثبتوا انهم على استعداد لتقديم دمائهم وارزاقهم وابنائهم وبناتهم وكل ما لديهم في سبيل الله ولتحرير ارضهم واستعادة حقوقهم. بالنسبة لهم ولرفاقهم وداعميهم، يبقى الرهان الأول لتحرير فلسطين مرتكزاً على المقاومة والكفاح المسلّح.