في 1 آذار /مارس 2024، قدمت نيكاراغوا طلباً أمام محكمة العدل الدولية للبدء بإجراءات قضائية ضد ألمانيا بسبب الانتهاكات المزعومة لاتفاقية الإبادة الجماعية، والقانون الإنساني الدولي، وغيرها من قواعد القانون الدولي العام في ما يتعلق بالأرض الفلسطينية المحتلة، ولا سيما قطاع غزة. وزعمت نيكاراغوا أنه عبر تقديم الدعم السياسي والمالي والعسكري لإسرائيل، ووقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (أونروا)، فإن ألمانيا تسهل ارتكاب إسرائيل للإبادة الجماعية وتنتهك التزامها بضمان احترامها للقانون الدولي الإنساني. كما طلبت نيكاراغوا من محكمة العدل الدولية أن تشير إلى تدابير مؤقتة على سبيل الاستعجال الشديد في ما يتعلق «بمشاركة ألمانيا في الإبادة الجماعية المستمرة والانتهاكات الخطيرة للقانون الإنساني الدولي وغيرها من القواعد القطعية للقانون الدولي العام التي تحدث في قطاع غزة (راجع «القوس»، نيكاراغوا صوت غزة في لاهاي، 9/3/2024). واستمعت محكمة العدل الدولية لطرفي الدعوى في 8 و9 نيسان/ أبريل، وفي 30 منه أصدرت المحكمة بغالبية 15 صوتاً مقابل صوت واحد قرارها على أنه «بناء على المعلومات الواقعية والحجج القانونية المقدمة من كلا الطرفين، فإن الظروف كما هي الآن أمام المحكمة، لا تتطلب من المحكمة ممارسة سلطتها بموجب المادة 41 من نظامها الداخلي وإصدار التدابير المؤقتة التي طلبتها نيكاراغوا».


رهناً بالظروف… لم تأمر المحكمة بتعليق تصدير الأسلحة إلى إسرائيل
لم تأمر المحكمة بتعليق تصدير الأسلحة الحربية وغيرها من المعدات العسكرية إلى إسرائيل. فقد وجدت المحكمة أن الظروف كما هي الآن أمامها ليست على درجة تتطلب الإشارة إلى التدابير المؤقتة. وتم تفسير أمر المحكمة على نطاق واسع على أنه انتصار لألمانيا، وأن في إمكانها الاستمرار في تسليم الأسلحة إلى إسرائيل. لكن القرار في مضمونه يشير إلى عكس ذلك تماماً.
يرى قانونيون دوليون أن القرار غير عادي في جوانب عدة. فهو يعتبر أحد أقصر أوامر التدابير المؤقتة في تاريخ محكمة العدل الدولية. كما أنه لا يقدم أي منطق قانوني سليم، ولا يذكر على وجه الخصوص المتطلبات الراسخة لتطبيق المادة 41 والمتعلقة بالإشارة إلى التدابير المؤقتة، وهي الاختصاص الظاهري، والمقبولية الظاهرة، ومعقولية الحقوق المطالب حمايتها، والربط بين الحقوق المؤكدة والتدابير المطلوبة لحمايتها من خطر وشيك وضرر لا يمكن إصلاحه. وبدلاً من ذلك، استندت المحكمة إلى المعلومات الواقعية والحجج القانونية التي قدمها الطرفان. وتبين لها أن الظروف في الوقت الحاضر ليست على درجة تستدعي الإشارة إلى التدابير المؤقتة. وقد برر بعض القضاة في بياناتهم المنفصلة موقف المحكمة في أنها سعت إلى تجنب أي نقاش حول شروط تطبيق التدابير المؤقتة وابتعدت عن النقاط المثيرة للجدل بين القضاة الــ15، خصوصاً في ما يتعلق بما إذا كانت «إسرائيل » تعتبر طرفاً ثالثاً لا غنى عنه في الإجراءات المتعلقة في مرحلة التدابير المؤقتة. فوجدت المحكمة مخرجاً لها، في عدم الدخول في نقاش حول متطلبات الإشارة إلى التدابير المؤقتة واستندت فقط إلى الظروف الواقعية.
تكشف القراءة الدقيقة لقرار المحكمة لماذا لم تشر المحكمة إلى التدابير المؤقتة. إذ رأت أنه لا يوجد خطر حقيقي وشيك من أن يتسبب سلوك ألمانيا في ضرر لا يمكن إصلاحه للحقوق المطلوب حمايتها قبل أن تتمكن المحكمة من إصدار حكمها النهائي. واستندت في استنتاجها هذا إلى المذكرات التي قدمتها ألمانيا. وفي الفقرات الأربع من أمرها، وهو الأقرب إلى التعليل القانوني، أشارت المحكمة إلى تصريح ألمانيا تسع مرات بأن إطارها القانوني الوطني الصارم يكفي لمنع تصدير ما يمكن استخدامه في ارتكاب جريمة الإبادة أو يشكل انتهاكاً لقواعد القانون الدولي الإنساني، وتلحظ المحكمة أن ألمانيا تؤكد انخفاض نسبة وحجم المساعدات العسكرية لإسرائيل منذ تشرين الثاني - نوفمبر الماضي. باختصار لم تكن هناك حاجة إلى إصدار أمر بوقف تصدير الأسلحة الحربية لأن ألمانيا لا تصدر حالياً مثل هكذا أسلحة.
استخدمت المحكمة في قرارها لغة مرنة مستندة على أسس «وقائعية» لا قانونية ما يسمح لها أن تغير قرارها بتغير الظروف

فالمحكمة أولت في هذه المرحلة وزناً خاصاً لما قدمته ألمانيا من أدلة على أن تسليحها لإسرائيل ليس تسليحاً هجومياً. وهو ما يعني أن ألمانيا عليها أن تلتزم بما أعلنته أمام المحكمة. وهو ما أكدته المحكمة عندما عمدت إلى تذكير ألمانيا بالتزاماتها الدولية المتعلقة بتزويد أطراف نزاع مسلّح بأسلحة، بأنه يجب عليها تجنب خطر استخدامها في انتهاك اتفاقية منع الإبادة والقانون الدولي الإنساني. وبالتالي فإن ألمانيا تخضع لالتزام «العناية الواجبة» عند تقديم الأسلحة لإسرائيل. فالمحكمة أكدت أن العملية العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة أسفرت عن قتل عدد كبير من المدنيين، وهدم هائل للمنازل والبنى التحتية وتهجير قسري. وبناء على ذلك، فالمحكمة هنا تؤكد وجود خطر حقيقي من شأنه أن يُبقي ألمانيا تحت التزام عدم تقديم أسلحة حربية لإسرائيل لاستخدامها في حربها في قطاع غزة.

تدابير مؤقتة محتملة
إن بقاء الإشارة إلى التدابير المؤقتة أمر ممكن، ويتجلى ذلك في حقيقة أن المحكمة في البند التنفيذي من قرارها لم تستخدم عبارة «ترفض المحكمة» طلب نيكاراغوا. بل قالت: «تخلص المحكمة إلى أن الظروف في الوقت الحاضر لا تتطلب ممارسة سلطتها بموجب المادة 41 من النظام الأساسي للإشارة بتدابير تحفظية». لقد استخدمت المحكمة في قرارها لغة مرنة مستندة إلى أسس «وقائعية» وليست قانونية، يسمح لها أن تغيّر قرارها بتغير الظروف. فالمحكمة هنا وفي الوقت التي لم تصدر عنها تدبير مؤقتة ضد ألمانيا، إلا أنها ألزمت الأخيرة بقيود كبيرة وهي عدم توريد أسلحة من شأن استخدامها انتهاك اتفاقية منع الإبادة واتفاقيات جنيف. ما يعني أن أي خرق لألمانيا لالتزاماتها الدولية سيؤدي إلى تحرك نيكاراغوا مرة ثانية لطلب فرض تدابير مؤقتة، ويمكن أيضاً للمحكمة من تلقاء نفسها أن تأمر بها. لذا، في حين أن نيكاراغوا لم تحصل على أي من التدابير المؤقتة المطلوبة، إلا أن طلب التدبير المؤقت في حد ذاته حقق هدفه وهو منع ألمانيا من توفير الأسلحة لإسرائيل لاستخدامها في قطاع غزة.

عودة تمويل الأونروا بقرار ألماني
في ما يتعلق بطلب نيكاراغوا بإصدار أمر لألمانيا لاستئناف تمويل الأونروا. فالمحكمة قالت إن المساهمات للأونروا هي طوعية بطبيعتها، خصوصاً أن ألمانيا استمرت في دعم الوكالة عبر الاتحاد الأوروبي وفروعها خارج قطاع غزة. علماً أن ألمانيا وربما لأنها أرادت أن تتفادى أي انتقادات حول دورها في المساهمة بتجويع الفلسطينيين، فقد أعلنت قبل أسبوع من صدور قرار المحكمة عن نيتها استئناف التمويل المباشر لوكالة «أونروا» في غزة، وذلك بعد صدور تقرير عن الأمم المتحدة يؤكد عدم توافر الأدلة الدامغة حول تورط عاملين في الوكالة في أحداث 7 أكتوبر. وبالتالي فإن مطلب نيكاراغوا في عودة التمويل للأونروا قد تحقق فعلياً.

الدعوى مستمرة
قرار المحكمة الصادر في 30 نيسان/ أبريل تضمن أيضاً فقرة تقضي برفض طلب ألمانيا حذف الدعوى من قائمة الدعاوى أمام المحكمة لأنه لم يكن هناك نقص واضح في الاختصاص، وهذا يعني أن القضية ستمضي قدماً. ومن المتوقع كخطوة إجرائية تالية أن تثير ألمانيا اعتراضات أولية على اختصاص المحكمة ومقبولية طلب نيكاراغوا. وفي هذه الحالة ستعلق المحكمة الإجراءات بشأن الأسس الموضوعية وتعقد جلسات استماع علنية أخرى بشأن مسألتي الاختصاص والمقبولية وربما، كما يرى البعض، لن يحدث ذلك قبل نهاية عام 2025.



ملخص قرار محكمة العدل الدولية بشأن التدابير المؤقتة ضد ألمانيا
«20 - واستناداً إلى المعلومات الوقائعية والحجج القانونية التي قدمها الطرفان، تخلص المحكمة إلى أن الظروف في الوقت الحاضر لا تتطلب ممارسة سلطتها بموجب المادة 41 من النظام الأساسي للإشارة بتدابير تحفظية.
21 - وفي ما يتعلق بطلب ألمانيا رفع القضية من القائمة، تلاحظ المحكمة أنه يمكنها، كما فعلت في الماضي، في الحالات التي يوجد فيها افتقار واضح إلى الاختصاص، أن ترفع القضية من القائمة في مرحلة التدابير المؤقتة وعلى العكس من ذلك، عندما لا يكون هناك مثل هذا الافتقار الواضح للاختصاص، لا يمكن للمحكمة أن ترفع القضية في تلك المرحلة. وفي هذه القضية، نظراً إلى عدم وجود نقص واضح في الاختصاص، لا يمكن للمحكمة أن توافق على طلب ألمانيا.
22 - تذكر المحكمة بأنها لاحظت، في أمرها المؤرخ 26 كانون الثاني/ يناير 2024، أن العملية العسكرية التي قامت بها إسرائيل في أعقاب هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 أسفرت عن «سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى، فضلاً عن الدمار الشامل للمنازل، والتهجير القسري للغالبية العظمى من السكان، والأضرار الجسيمة التي لحقت بالبنية التحتية المدنية». وبالإضافة إلى ذلك، لا تزال المحكمة تشعر بقلق عميق إزاء الظروف المعيشية الكارثية للفلسطينيين في قطاع غزة، ولا سيما في ضوء الحرمان المطول والواسع النطاق من الغذاء وغيره من الضروريات الأساسية التي تعرضوا لها، على النحو الذي اعترفت به المحكمة في أمرها المؤرخ 28 آذار/ مارس 2024 .
23 - تذكر المحكمة أنه عملاً بالمادة 1 المشتركة بين اتفاقيات جنيف، يقع على عاتق جميع الدول الأطراف التزام بـ«احترام وضمان احترام» الاتفاقيات «في جميع الظروف». ويستنتج من هذا الحكم أن كل دولة طرف في هاتين الاتفاقيتين، «سواء أكانت طرفاً في نزاع معين أم لا، ملزمة بضمان الامتثال لمتطلبات الصكوك المعنية»، وهذا الالتزام «لا ينبع فقط من الاتفاقيات نفسها، بل من المبادئ العامة للقانون الإنساني التي لا تعبر عنها الاتفاقيات إلا تعبيراً محدداً». وفي ما يتعلق باتفاقية الإبادة الجماعية، أتيحت للمحكمة الفرصة لتلاحظ أن الالتزام بمنع ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، عملاً بالمادة الأولى، يقتضي من الدول الأطراف التي تكون على علم، أو التي كان ينبغي أن تكون على علم عادة، بالخطر الجسيم لارتكاب أعمال الإبادة الجماعية، أن تستخدم جميع الوسائل المتاحة لها على نحو معقول لمنع الإبادة الجماعية قدر الإمكان. وعلاوة على ذلك، فإن الدول الأطراف ملزمة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية بعدم ارتكاب أي أعمال أخرى مذكورة في المادة الثالثة.
24- وعلاوة على ذلك، ترى المحكمة أن من الأهمية بمكان تذكير جميع الدول بالتزاماتها الدولية المتعلقة بنقل الأسلحة إلى أطراف النزاع المسلح، تفادياً لخطر استخدام هذه الأسلحة لانتهاك الاتفاقيات المذكورة أعلاه. وتقع جميع هذه الالتزامات على عاتق ألمانيا، بوصفها دولة طرفاً في الاتفاقيات المذكورة، في تزويدها إسرائيل بالأسلحة».