معظم أعضاء مجلس الأمن الدولي وقضاة محكمة العدل الدولية ورؤساء البعثات الدبلوماسية في الجمعية العامة للأمم المتحدة يعلمون أن «إسرائيل» لا ترضخ لقرار وقف إطلاق النار، ولن تتراجع عن إبادة البشر في غزّة. ويبدو إصرار الجيش الإسرائيلي على تصفية أجانب يعملون لمصلحة المطبخ المركزي العالمي واستهدافهم بشكل متكرر، بمثابة تأكيد على استمراره في الإبادة من خلال التجويع، واعتراض كل من يسعى إلى وقفه أو التخفيف من وطأته. لا بل تقوم إسرائيل بما هو أسوأ، حيث إن تزامن تجويع الفلسطينيين مع حلول شهر رمضان المبارك يُعدّ رسالة واضحة إلى المسلمين في كل أنحاء العالم مفادها أن عبيد المال والمصالح المادية (التي يحسبونها أبرز علامات التطوّر والرّقيّ) لا يمكن أن يهبّوا للدفاع عن شرفهم ودينهم ومسرى رسول الله وأُولى القبلتين. بل إنهم قد يستنكرون ويتظاهرون ويصرخون ويبكون... ثم يعودون إلى أولوية حماية مصالحهم المادية.

لدى إسرائيل سجلّ حافل بتجاوز قرارات الأمم المتحدة والهيئات الدولية، ودعا مسؤولون إسرائيليون بصراحة إلى إبادة الفلسطينيين، وأعلنوا أنهم لن يتوقفوا عن القتل إلا بعد الانتهاء من اقتحام رفح المكتظّة باللاجئين والجرحى والأطفال.
يستغرب محلّلون عدم قيام أعضاء مجلس الأمن الدولي وقضاة محكمة العدل الدولية ورؤساء البعثات الدبلوماسية في الجمعية العامة للأمم المتحدة بأي خطوة جدّية لإجبار إسرائيل على احترام القانون الدولي والقرارات الصادرة عن مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية. ويستهجن آخرون عدم صدور قرار وقف إطلاق النار تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وعدم فرض عقوبات على إسرائيل أسوة بالدول الأخرى التي تخرق القرارات الصادرة عن مجلس الأمن.
كما يتساءل البعض عن امتناع المحكمة الجنائية الدولية والمدّعي العام فيها كريم خان عن إصدار مذكّرة توقيف قضائية بحق رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو أو أيّ من المسؤولين الإسرائيليين أسوة برؤساء دول آخرين اتُّهموا بخرق القانون الجنائي الدولي.
قد يعود سبب الاستغراب والتساؤل والاستهجان إلى مفهوم مشوّه وخاطئ لحقيقة مواقف الدول الغربية المسيطرة على النظام العالمي من إسرائيل. فهذه الدول هي في الحقيقة الدول المؤسّسة فعلياً للكيان الإسرائيلي والضامنة لبقائه، وبالتالي عليها أن تحافظ عليه لا أن ترميه وحده في قفص اتهام الهيئات والمحاكم الدولية.



لكن ماذا حصل أخيراً؟
قرّرت الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي كانت قد شجّعت الإسرائيليين على القتل والدمار بحجة الدفاع عن النفس بعد انطلاق عملية طوفان الأقصى البطولية في 7 تشرين الأول 2023، السماح للأمم المتحدة بمطالبتهم بوقف إطلاق النار (بشكل غير ملزم كما ادّعى الأميركيون خلافاً لميثاق الأمم المتحدة).
ما الذي دفع الدول التي اعترضت على قرار وقف إطلاق النار منذ بداية المجازر ومنعت صدوره عبر استخدام الفيتو (استخدمت الولايات المتحدة الفيتو ثلاث مرات ضد قرارات وقف إطلاق النار منذ بداية العدوان) إلى أن تغيّر موقفها؟ ولماذا تعلو أصوات رؤساء غربيين للمطالبة بوقف الحرب، ولو فقط خلال شهر رمضان، وإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة؟
للإجابة على هذه الأسئلة لا بد بداية من عرض بعض الوقائع الأساسية:
1. اقتراب العدوان الإسرائيلي على غزة من انقضاء الشهر السادس من دون التمكن من الحسم ومن دون تحرير الأسرى الذين تحتجزهم المقاومة؛
2. استشهاد وجرح نحو 100 ألف إنسان معظمهم من الأطفال والنساء والعُجَّز بأسلحة أميركية وكندية وأوروبية؛
3. إنفاق ما يزيد على 80 مليار دولار لتغطية كلفة العدوان ومبالغ إضافية لإيواء المستوطنين الهاربين من غلاف غزة وشمال فلسطين المحتلّة؛
4. انتشار صور آلاف الأطفال القتلى والجرحى والدمار الشامل للمستشفيات والإسعافات والمنشآت المدنية على شبكة الإنترنت وعلى الهواتف الذكية حول العالم؛
5. قتل الجيش الإسرائيلي لأكبر عدد من موظفي الأمم المتحدة منذ تأسيسها؛
6. صدور عشرات التقارير عن مؤسسات تابعة للأمم المتحدة (اليونيسف، منظمة الصحة العالمية، مفوضية حقوق الإنسان، الأونروا وغيرها) التي تدلّ بالإثبات القاطع على جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية ترتكبها إسرائيل في غزة.
7. تعدد التحركات الاحتجاجية ضد الإبادة الجماعية في العواصم والمدن الأميركية والأوروبية وفي كل أنحاء العالم؛
8. توسيع الشرخ داخل المجتمع الإسرائيلي وارتفاع وتيرة الخلافات بين الإسرائيليين أنفسهم وتكرار الصدامات العنيفة بين المستوطنين والجنود في المدن الفلسطينية المحتلة.
إصرار الجيش الإسرائيلي على تصفية أجانب يعملون لمصلحة المطبخ العالمي هو تأكيد على استمرار الإبادة من خلال التجويع


أحد أهمّ العناصر الأساسية لتكوين مفهوم واضح لبلورة الموقف السياسي الأميركي والأوروبي بشأن الهجوم الإسرائيلي هو عنصر الوقت. وكانت الخلافات بشأن الجدول الزمني ومدة العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة موضوع خلاف إسرائيلي أميركي منذ البداية. ولم يقتنع الأميركيون بكلام نتنياهو في تشرين الأول من العام الماضي بأن العملية العسكرية ستستغرق نحو ستة أشهر. كما أنهم استهجنوا تحديد نتنياهو هدف العملية بالقضاء على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) خلال هذه المدة. ولكن رغم هذه الخلافات، قرّر حلفاء إسرائيل منحها الضوء الأخضر للحسم العسكري في غزّة. وظنّ بعض المحللين العسكريين الأشاوس ممن ملأوا شاشات التلفزيون وكتبوا في الصحف والمنشورات وتحدّثوا في المؤتمرات والاجتماعات عن التفوّق العسكري الإسرائيلي والتكنولوجيا العسكرية الأميركية والبريطانية والفرنسية المجنّدة لخدمة آلة القتل والدمار الإسرائيلية، أن حماس ستُهزم وتتراجع. لكن ذلك لم يحصل رغم استدعاء جيوش من المرتزقة الأوروبيين والأميركيين لمساعدة الجيش الإسرائيلي في عدوانه على غزة (نحو 4 آلاف جندي فرنسي يساهمون في إبادة البشر في غزة). ولا يزال المجاهدون في حركة حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية يقاومون في غزة وفي شمال القطاع تحديداً حيث أعلن الجيش الإسرائيلي منذ أكثر من شهرين السيطرة عليها بالكامل.
المعركة ما زالت قائمة في الميدان حيث يخرج شبان بصواريخهم من بطن الأرض ليفجّروا الدبابات، وعلى شاشات الهواتف والحواسيب في كل العالم يشاهد الجميع إحراق الدبابات الإسرائيلية التي عُدّت يوماً من أكثر العربات العسكرية تطوّراً وقوة في العالم.

أحد أهمّ العناصر الأساسية لتكوين مفهوم واضح لبلورة الموقف السياسي الأميركي والأوروبي بشأن الهجوم الإسرائيلي هو عنصر الوقت


لولا صمود المقاومة لكان العدوان الإسرائيلي على غزّة قد مرّ مرور الكرام ولكانت الإبادة الجماعية "على السكت"؛
لولا صمود المقاومة لما تعمّق الشرخ بين الإسرائيليين ليصل الى حد الصدام في ما بينهم؛
لولا صمود المقاومة لما اعترض الغرب على وحشية ارتكابات جيش العدو الإسرائيلي بحق المدنيين والمستشفيات والأطفال والجرحى؛
ولولا صمود المقاومة لستة أشهر في وجه أكثر الجيوش تطوّراً وتدميراً لما صدر قرار لوقف إطلاق النار عن مجلس الأمن الدولي ولا حتى قرار عن محكمة العدل أو عن أي هيئة دولية.
منحت أميركا وأوروبا إسرائيل فرصة للقضاء على غزّة خلال الأشهر الأولى من العدوان ووعدتاها بالحماية من أي تدخل من الأمم المتحدة لوقف الحرب. لكنّ الحرب طالت و«إسرائيل سقطت».