تنتشر في وسائل الاعلام اخبار عن إجراءات تتخذها بعض الدول الغربية بحق «إسرائيل». من بين تلك الإجراءات الحد من تصدير الأسلحة اليها. فبعد مرور أكثر من خمسة أشهر على إبادة الفلسطينيين جماعياً في غزة المحاصرة، واستشهاد ما يزيد على 40 الفاً وجرح عشرات الآلاف، معظمهم أطفال ونساء وشيوخ، وبعد رفض رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو العزوف عن اجتياح مدينة رفح المكتظة باللاجئين، وبعد تفشّي المجاعة وانهيار القطاع الصحي في غزة، وبعد انتشار آلاف الصور والتسجيلات والتقارير عن حجم التخريب والمذابح والدمار الشامل، تنبهت بعض الحكومات الغربية ودول الاتحاد الأوروبي لمصلحتها، وهي تسعى الى اصدار براءة ذمّة من خلال اتخاذ إجراءات عقابية، ولو شكلية، بحق إسرائيل. علماً ان نفس هذه الحكومات كانت قد عبّرت عن مواقف داعمة لإسرائيل منذ 7 تشرين الأول من العام الفائت، ولا شك ان النبرة العالية لتلك المواقف شجّعت الإسرائيليين على الشروع في حملة عسكرية واسعة النطاق لإبادة الفلسطينيين جماعياً في غزة أو تهجيرهم الى مصر.

رئيسة الاتحاد الأوروبي اورسولا فون دير ليان كانت قد سارعت لزيارة فلسطين المحتلة بعد انطلاق طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول من العام الفائت، واكّدت لنتنياهو ان «أوروبا تقف خلف إسرائيل، ومن حق إسرائيل الدفاع عن نفسها»، واصفة المقاومة الفلسطينية بـ«الشيطان» الذي يريد «إبادة اليهود». وبالتالي، أعطت دفعاً وغطاءً دولياً لردّ الإبادة المزعومة بإبادة فعليّة، ولشن نتنياهو هجوماً واسعاً على غزة المكتظة بالمدنيين. وفي 22 تشرين الأول 2023 ، صدر عن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وكندا بيان مشترك دعماً لإسرائيل جاء فيه أن «الزعماء أكدوا مجددا دعمهم لإسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها ضد الإرهاب». وفي 16 تشرين الثاني، ناقش الرئيس الكندي جوستان ترودو خلال اتصال هاتفي مع الحكومة الإسرائيلية «قيام حركة حماس باستخدام المدنيين كدروع بشرية» في غزّة. ولا شك ان بعض الإسرائيليين يعتمدون هذه المزاعم لتبرير قتل عشرات آلاف المدنيين والقاء اللوم على حركة حماس. اضف الى ذلك ان الدول الأوروبية وكندا وغيرها من الدول بذلت جهوداً ديبلوماسية في مجلس الامن الدولي لمنع صدور قرار ملزم بوقف اطلاق النار ووقف الإبادة الجماعية في غزة.
قد لا يتمكن الأوروبيون والكنديون من التغاضي عن هذه التصريحات، بينما تملأ شاشات هواتف وحواسيب وتلفزيونات الملايين مشاهد الإبادة والتجويع والتعذيب والدمار الشامل.
منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل حاول جاهداً تبرئة أوروبا من الاجرام الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، فأعلن مساء الإثنين الفائت عن قرب موعد فرض الاتحاد عقوبات على «مستوطنين متطرفين» يهاجمون الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلّة.
لكن بدل ان يستجيب او يرتدع الكيان الإسرائيلي من اعلان الاتحاد الأوروبي، سارع وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش الى الرد عليه بالدعوة الى توسيع النشاط الاستيطاني. وحدد سموتريتش ان «الردّ الصهيوني يشمل تعزيز وترسيخ الاستيطان في جميع أنحاء أرض إسرائيل» قاصداً «يهودا والسامرة» (التسمية التي يعتمدها الصهاينة للضفّة الغربية) وقطاع غزّة حيث يتحدث ضباط اسرائيليون عن اعادة بناء مستوطنات «غوش قطيف» و«نيتساريم» و«كفار داروم».
سموتريتش كان قد تفاخر بالإعلان عن مشروع بناء 3300 وحدة استيطانية جديدة في الضفة الغربية، ولم يتجرأ بوريل أو أي مسؤول أوروبي على الردّ عليه، ولم تتخذ اية إجراءات أوروبية جدية بحق «إسرائيل».
ولا يمكن للمسؤولين في الاتحاد الأوروبي، المحترفين في التلاعب الديبلوماسي، ان يحتالوا على الرأي العام هذه المرّة لأن العالم كله شاهد على ردّة الفعل الأوروبية الصارمة تجاه بعض الحوادث التي شارك فيها الجيش الروسي في أوكرانيا، وبالتالي لا يمكن تبرير التساهل الأوروبي مع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بدعم من أكثرية الإسرائيليين، بحق البشر في غزة المحاصرة.
لا يمكن للمسؤولين في الاتحاد الأوروبي، المحترفين في التلاعب الديبلوماسي، ان يحتالوا على الرأي العام هذه المرّة


قال بوريل إن سلوك المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية يشكل «انتهاكا خطيرا للقانون الدولي»، ويبدو انه لاحظ كذلك ان الاتفاقية الدولية لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها تنص على معاقبة كل من شارك وحرّض وسهّل جريمة الإبادة الجماعية. وبالتالي بدأ مع عدد من المسؤولين الأوروبيين حملة لتبرئة الدول التي تدعم «إسرائيل» من جرائم المشاركة والتحريض وتسهيل جريمة الإبادة الجماعية في غزة علماً ان
- الدول الاوربية دعمت هجوماً عسكرياً على أحد اكثر أماكن الاكتظاظ البشري في العالم بحجة «حق إسرائيل بالدفاع عن النفس»؛
- الدول الأوروبية قامت خلال تشرين الأول والثاني وكانون الأول من العام الفائت بمساعي ديبلوماسية لمنع صدور قرار ملزم عن مجلس الامن الدولي بوقف اطلاق النار؛
- صدرت تقارير دقيقة وموثّقة تشير الى آلاف الأوروبيين (فرنسيين وهولنديين وغيرهم) الذين انضموا الى الجيش الإسرائيلي وشاركوا في قتل الأطفال واستهداف المستشفيات وتعذيب الاسرى.
يُتوقع في الأسابيع المقبلة ان تزيد نسبة الإجراءات الشكلية الأوروبية والغربية بحق «إسرائيل»، ليس فقط لمحاولة تبرئة انفسهم من جرائم الإبادة الجماعية في غزة، بل كذلك لمنع انهيار سلطة محمود عباس المقرّبة من بعض الأنظمة الخليجية المطبّعة مع العدو الاسرائيلي. لكن كل هذه الإجراءات لا يمكن ان تمحو ضلوع أوروبيين في جريمة الإبادة الجماعية كمحرضين وداعمين ومساهمين في ارتكابها ووجوب معاقبتهم بحسب القانون الدولي الذي تناوله بوريل نفسه.