في 10 كانون الثاني 2024، قبل يوم واحد من بدء جلسات الاستماع في محكمة العدل الدولية بشأن طلب جنوب افريقيا اصدار امر قضائي بوقف اطلاق النار في غزة (كتدبير مؤقت)، دافعت وزيرة خارجية المانيا أنالينا بيربوك بوقاحة لافتة عن «إسرائيل»، في مؤتمر صحافي عقدته في بيروت. علماً ان منظمات الأمم المتحدة نشرت عشرات التقارير الرسمية منذ 7 تشرين الأول 2023 تشير الى آلاف الأطفال والنساء والشيوخ الذين قتلهم الجيش الإسرائيلي في البيوت ومدارس الانروا ومستشفيات غزّة. الوزيرة الألمانية التي أتت الى بيروت لتهديد اللبنانيين ومحاولة ترهيبهم من هجوم إسرائيلي رداً على عمل المقاومة في الجنوب قالت: «بحكم التعريف، تتطلب الإبادة الجماعية نية التدمير، كليًا أو جزئيًا، لأفراد مجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية بسبب انتمائهم إلى هذه المجموعة. لا أستطيع أن أرى هذه النية في دفاع إسرائيل عن نفسها ضد منظمة حماس الإرهابية المسلحة».
أما نائب المستشار الألماني والوزير الاتحادي للشؤون الاقتصادية والمناخ، روبرت هابيك فحاول ان يقلب الموضوع رأساً على عقب من خلال توجيه تهمة الإبادة الجماعية الى حركة المقاومة الإسلامية - حماس. إذ قال خلال زيارته الى القدس المحتلّة: «أجندتهم (حماس) هي القضاء على دولة إسرائيل. لذا ان شعار من النهر إلى البحر لا يعني أن اليهود يجب أن يغادروا إسرائيل بالقوارب، بل يجب إبادتهم. إن اتهام إسرائيل بالإبادة الجماعية هو انقلاب كامل على الضحايا».
وبعد أقل من ساعتين من تقديم المحامين المدافعين عن «إسرائيل» مرافعاتهم الدفاعية أمام محكمة العدل الدولية، في 12 كانون الثاني، أصدرت الحكومة الالمانية بياناً أعلنت فيه رسمياً عزمها التدخل في المحكمة دفاعاً عن «إسرائيل» (يحق للدول التدخل عملاً بالمادة 63 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية). كما أصدر المتحدث الرسمي باسم مجلس الوزراء الألماني بياناً صحافياً، كتب في نسخته الأولى عنواناً تضمن خطأ قد يدل الى استعجال وارباك. فجاء في عنوان البيان الرسمي في نسخته الاولى «الإجراءات المتخذة في المحكمة الجنائية الدولية» بينما طالب مبتدئ في القانون الدولي يعلم ان محكمة العدل الدولية ليست محكمة جنائية وان الإجراءات والاختصاص يختلفان في كل من المحكمتين.
تضمن البيان الألماني تشويها للحقائق قد يدل الى حقد دفين ضد العرب والمسلمين بشكل عام والفلسطينيين بشكل خاص: «في 7 تشرين الاول 2023، هاجم إرهابيو حماس بوحشية وعذبوا وقتلوا واختطفوا الأبرياء في إسرائيل. هدف حماس هو محو إسرائيل. ومنذ ذلك الحين، تدافع إسرائيل عن نفسها ضد الهجوم اللاإنساني الذي تشنه حماس». وذهب المسؤولون الالمان الى ابعد من ذلك في دفاعهم المستميت عن الاجرام الإسرائيلي، فأوضح السفير الألماني لدى الولايات المتحدة مثلاً أن التدخل الألماني في محكمة العدل الدولية سيكون بمثابة تدخل «نيابة عن إسرائيل»، علماً ان نظام المحكمة لا يسمح بذلك.
وبدا للبروفسور شتيفان تالمون (مدير معهد القانون الدولي في جامعة بون) أن الحكومة الفيدرالية الألمانية أخطأت عندما قالت «إننا نقف إلى جانب إسرائيل كطرف ثالث في هذه الإجراءات و...(سوف) ندافع عنها». اذ تقتصر التدخلات بموجب المادة 63 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية على الملاحظات بشأن أحكام اتفاقية محددة في قضية محدّدة ولا يحق للدولة المتدخلة تناول الأسس الموضوعية للقضية أو الإشارة إليها. ولا يجوز تناول مسائل مثل وجود نزاع بين الأطراف أو الأدلة أو الوقائع. وبالتالي لن يُسمح لألمانيا بالادعاء بأن إسرائيل لم تكن لديها نية الإبادة الجماعية أو أن بعض تصريحات المسؤولين الإسرائيليين لم تكن تشير إلى نية الإبادة الجماعية. كل ما تستطيع ألمانيا معالجته بحسب البروفسور تالمون هو كيف يمكن للمحكمة، بشكل عام، إثبات نية الإبادة الجماعية أو كيفية تفسير أحكام معينة في اتفاقية الإبادة الجماعية.

تلاعب بالعدالة وازدواجية معايير
تحركت الحكومة الألمانية بسرعة للدفاع عن «إسرائيل» كما ذكرنا آنفاً، وأعلنت عن تدخلها في محكمة العدل الدولية بعد أقل من ساعتين من انتهاء تقديم المحامين المدافعين عن «إسرائيل» مرافعاتهم الدفاعية. واللافت ان المانيا لم تتحرك بهذه السرعة الفائقة ضد روسيا في قضية أوكرانيا أمام المحكمة نفسها مثلاً. اذ أعلنت ألمانيا رسمياً عن تدخلها في هذه القضية لأول مرة في 20 أيار 2022، أي بعد مرور ثلاثة وثمانين يومًا على بدء الإجراءات من قبل أوكرانيا وخمسة وستين يومًا بعد إصدار المحكمة قرار بشأن التدابير المؤقتة. وعندما أعلنت ألمانيا نيتها التدخل دفاعاً عن اوكرانيا، لم تفعل ذلك بمفردها كما تفعل اليوم دفاعاً عن «إسرائيل»، بل في بيان مشترك مع أربعين دولة أخرى والاتحاد الأوروبي.
أما في قضية ميانمار المحالة الى محكمة العدل الدولية، فقد أعلنت الحكومة الألمانية عزمها التدخل في الإجراءات في 25 آب 2022 أي بعد مرور ثلاث سنوات على الإجراءات وبعد اصدار المحكمة قرارين بشأن التدابير المؤقتة. وفي هذه القضية ايضاً تدخلت ألمانيا بالاشتراك مع خمس دول أخرى.
ويشير البروفسور تالمون في تقرير نشره الاثنين الفائت الى تناقض واضح بين الحجج القانونية التي قدمتها المانيا في تحديد أهمية اثبات النية الجرمية لتحديد الإجراءات المؤقتة في قضية الإبادة الجماعية بحق الروهينغا من جهة وفي قضية الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين من الجهة المقابلة.
تزعم الحكومة الألمانية بأن اثبات النية الجرمية مطلوب لاتخاذ المحكمة في لاهاي إجراءات بحق «إسرائيل». أما في قضية الروهينغا، فكانت الحكومة الالمانية قد اعلنت أن «القتل على نطاق واسع لأعضاء المجموعة هو المظهر الأكثر وضوحاً لنية تدمير المجموعة كلياً أو جزئياً». واضافت الحكومة الألمانية أن استهداف الأطفال لعب دوراً محورياً في تحديد النية. وذكرت أن «الأدلة المتعلقة بالضرر الذي لحق بالأطفال قد تساهم في الاستنتاج بأن الجناة كانوا يعتزمون تدمير جزء كبير من المجموعة المحمية». وفي ما يتعلق بالجانب الإجرائي المتعلق بإثبات نية الإبادة الجماعية، قالت الحكومة الألمانية إن التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة لها «قيمة ثبوتية خاصة في تحديد العناصر المطلوبة لإثبات وجود الإبادة الجماعية».
وبالتالي قد يكون مفيداً هنا الإشارة الى بعض التقارير الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة بشأن جرائم يمكن تصنيفها قانونياً ضمن جريمة الإبادة الجماعية:
- اليونيسف: غزة أخطر مكان في العالم للأطفال.
- الأونروا: تقرير رقم 64 حول الوضع في قطاع غزة والضفة الغربية.
- مكتب حقوق الإنسان: إسرائيل تعرض نفسها للمسؤولية عن جرائم حرب في غزة.
- الأمين العام للأمم المتحدة: تداعيات الوضع في غزة على الفلسطينيين
وبالتالي يُتوقع ان يزيد توتر الحكومة الألمانية خلال الأسبوع الجاري وتزيد معه الضغوط التي يتولاها كما يبدو القاضي الألماني في هيئة محكمة العدل الدولية غيورغ نولته على زملائه لمنع صدور قرار يلزم «إسرائيل» قانونياً بوقف اطلاق النار. لكن مهمة نولته صعبة في ظل استمرار الجيش الإسرائيلي بقتل المدنيين وموظفي الأمم المتحدة والصحافيين والأطباء والمسعفين وتدمير المستشفيات ومدارس الانروا عمداً.
الحكومة الألمانية لا تدافع عن «إسرائيل» وحسب، بل تبرّر المجازر والكارثة الإنسانية في غزة المحاصرة حيث يواجه السكان الموت والجوع الشديد والتهجير القسري في كل انحاء غزة منذ 106 أيام.
علماً ان السلوك الألماني الرسمي بحق الفلسطينيين وسعي المانيا الى تعطيل حق الفلسطينيين باللجوء الى المحاكم الدولية ليس جديداً. إذ ان الحكومة الألمانية هاجمت المحكمة الجنائية الدولية يوم أعلنت أن لديها الاختصاص القضائي للتحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. كما صوتت الحكومة الألمانية ضد عدة قرارات تتعلق بإدانة الاحتلال والممارسات الإسرائيلية وبحق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
تنشط بعض الجمعيات والهيئات الثقافية والأكاديمية والفنية الألمانية في لبنان وهي تدعو الى احترام حقوق الانسان والى المساواة بين البشر ونبذ العنف والتطرّف والتعصّب بينما تقوم الحكومة الألمانية التي يخضعون لها بعكس ذلك تماماً. قد يكشف ذلك عن نمط عنصري معروف وسلوك استعلائي يشبه السلوك الذي يعتمده الإسرائيليون، ومفاده ان حقوق الانسان مخصصة لفئة من البشر دون غيرها. ويبدو ان حقوق الانسان بالنسبة للألمان لا تعني الفلسطينيين، والأكيد بالنسبة لهم انها لا ترقى الى حقوق الناجين من معتقلات التعذيب الألمانية في منتصف القرن الماضي.