"كانت الاستراتيجية العسكرية الأساسية للحرب تفكيك النظام الصحي. عندما يقتل طبيب الكلى الوحيد في غزة، ويقتل أخصائي علم الأمراض الوحيد في مستشفى السرطان، ويصاب رئيس قسم جراحة الأعصاب باستهداف منزله… فإن الفكرة هي خلق كارثة تغذي نفسها بنفسها مع تدمير البنى التحتية والمجاري»، هكذا يلخّص الجرّاح الفلسطيني غسان أبو ستة حرب الاحتلال التدميرية على القطاع الصحي في قطاع غزة.مع دخول الحرب شهرها الثاني، في 11 تشرين الأول 2023، أصدر «القوس» عدداً بعنوان «محرقة المستشفيات». وعلى مشارف الشهر الثالث من الحرب، لم نعد أمام مشهد انهيار قطاع صحي وتبرير للاستهدافات فحسب، بل كارثة بكل ما تعنيه الكلمة، تشمل كل الشرائح السكانية في القطاع تاركة تداعيات طويلة الأمد.
المستشفيات والمراكز الصحية التي تحولت إلى مراكز نزوح للمدنيين، أصبحت شاهدة أيضاً على فظائع إنسانية ارتكبها الاحتلال خلال استهدافه ومحاصرته واقتحامه المستشفيات والتنكيل بالنازحين والطواقم الطبية والحرمان من الغذاء والماء، وصولاً إلى الإعدامات الميدانية واستخدام الأطباء والمدنيين دروعاً بشرية.



بالأرقام
مع خروج كافة مستشفيات شمال غزة عن العمل، أدى نقص الوقود والهجمات الإسرائيلية الجوية والمدفعية المتكررة على مستشفيات غزة وضواحيها إلى خروج 23 مستشفى (من أصل 35) و 53 مركزا صحيا و 141 مؤسسة صحية من الخدمة، فيما بلغت نسبة الإنشغال السريري في مستشفيات الجنوب 350%.
وفي ظل الاستهداف «الإسرائيلي» الممنهج لركائز القطاع الطبي، استشهد 311 كادراً صحياً ونحو 600 مدني، ودُمّرت 102 سيارة اسعاف، واعتقل 99 كادراً صحياً على رأسهم مدراء مستشفيات شمال غزة د.محمد ابو سلمية (مستشفى الشفاء) ود.أحمد الكحلوت (مستشفى كمال عدوان) ود.احمد مهنا (مستشفى العودة).
ومع دخول القطاع الصحي مرحلة المفاضلة بين المرضى وعدم تغطية المساعدات أكثر من 2% من الحاجات، أشارت منظمة «أطباء بلا حدود» إلى أن «الأطباء يمشون على جثث الأطفال القتلى لعلاج الأطفال الآخرين الذين سيموتون على أي حال. ويجري تشييد المزيد والمزيد من الهياكل المؤقتة وتُستخدم الخيام كعيادات مؤقتة».

أحكام إعدام منتظرة
آلاف المرضى والجرحى والحوامل ينتظرون أحكام إعدام مؤجلة، و 800 ألف مواطن متروكون في الشمال من دون خدمات طبية، فضلاً عن «استشهاد العشرات داخل منازلهم لتعذر نقلهم للمشاف،ي إما لخروجها عن الخدمة، وإما لخضوع مناطقهم لتوغلات إسرائيلية، إضافة إلى آخرين يموتون يومياً بسبب استهداف المستشفيات وقطع الإمدادات الإنسانية».
وفي ظل قطع الاحتلال للإمدادات الإنسانية والأدوية والوقود، تزداد مخاطر استشهاد العشرات من الفئات الأكثر ضعفاً من مرضى السرطان والأمراض المزمنة، والحوامل، والمواليد الجدد.
النساء: نحو 50 الف سيدة حامل في مراكز الايواء بلا ماء وبلا طعام وبلا رعاية صحية و نحو 180 سيدة يلدن يومياً في ظروف غير آمنة وغير انسانية.
- تواجه الحوامل احتمال الولادة من دون تخدير أو احتياطات صحية أو تدخل جراحي إذا لزم الأمر.
- تشير التقديرات إلى أن ما لا يقل عن 15 في المئة من هذه الولادات تواجه مضاعفات تتطلب رعاية توليدية أساسية أو شاملة. وأفادت تقارير بوفاة العديد من النساء قبل الولادة أو خلالها.
- أكثر من 690 ألف امرأة وفتاة في فترة الحيض لا يحصلن إلا بشكل محدود على مستلزمات النظافة الخاصة بالدورة الشهرية، وفقاً لصندوق الأمم المتحدة للسكان.
- أَجبر قصف الاحتلال مراراً أجنحة الولادة وعيادات الصحة الإنجابية على الإغلاق أو الانتقال إلى مكان آخر.
- وُثّق العثور على 5 أطفال رضع موتى وبحالة تحلل في حضانة مستشفى النصر شمال القطاع بعدما تركهم الاحتلال لثلاثة أسابيع، عقب إجبار الكادر الطبي والمرضى على إخلائه.

انقر على الجدول لتكبيره


المرضى وذوو الاحتياجات الخاصة
- أكثر من ألفي مريض بالسرطان، وأكثر من ألف مريض كلى ونحو 50 ألفًا من مرضى القلب والأوعية الدموية، وأكثر من 60 ألف مريض بالسكري، بحاجة للخدمات الطبية العاجلة، ولم يعودوا يحظون بأولوية كافية في مرافق الرعاية الصحية المكتظة بسبب الافتقار إلى الموظفين والأدوية والحيز المكاني والمعدات والموارد اللازمة للعلاج.
-اضطر ذوو الاحتياجات الخاصة لترك منازلهم المجهّزة بالأجهزة اللازمة، أما الأشخاص ذوو الإعاقات البصرية أو السمعية أو النمائية أو الذهنية فيواجهون صعوبة أو قد لا يسمعون ما يحدث أو يعرفون عنه أو يفهمونه.

الأوبئة والأمراض
خلال تشرين الثاني، سُجّلت أكثر من 50 حالة إسهال شديد نحو نصفها لأطفال أصغر من خمس سنوات
منها أكثر من 5 آلاف حالة إصابة بجدري الماء، و18800 إصابة طفح جلدي، و10 آلاف إصابة بالجرب، وعشرات آلاف حالات الإصابة بالإنفلونزا الشديدة
- أكثر من 20 ألف حالة مرتبطة بعدوى في الجهاز التنفسي العلوي في الأسبوع الأول من كانون الأول
-900 الف طفل في مراكز الايواء يعانون خطر الجفاف والمجاعة وامراض الجهاز الهضمي والتنفسي والامراض الجلدية وفقر الدم
أكثر من 9000 شخص استشهدوا بسبب عدم القدرة على علاجهم و1000 طفل بُترت أطرافهم من دون تخدير، ووثّقت عدة حالات من الموت جوعاً


تداعيات صحيّة طويلة الأمد
يوضح المتخصص بالأمراض الجرثومية الأستاذ الجامعي ومسؤول قسم الأمراض الجرثومية في مستشفى الشيخ راغب حرب الجامعي، الدكتور تحسين محفوظ، لـ«القوس» أن ظروف الإيواء والنزوح مع اكتظاظ قياسي وبنى تحتية متهالكة وتلوث المياه الجوفية، إضافة إلى انعدام شروط النظافة والتعقيم والتخزين في الشراب والطعام وسوء التغذية، كلّها عوامل تؤدي إلى تفشي الأوبئة والأمراض كالجرب والقمل والكوليرا والسل والتيفوئيد والإسهال والتسمم الغذائي.
ويلفت إلى أن هذه التداعيات لا تنتهي بمجرد فتح معبر رفح، بل يجب إلى حين إعادة الإعمار بناء مراكز إيواء ومستشفيات ميدانية قائمة على بنى تحتية سليمة، ومن دون ذلك «سيبقى الكثير من هذه الأمراض»، محذّراً من خطورة بقاء جثامين الشهداء بين الأفراد في المستشفيات واحتكاكها مع أجساد النازحين والمصابين .

حصار مصري مستمر وتواطؤ المنظمات الإنسانية
كل المعطيات والشهادات الصادمة حول أوضاع القطاع الصحيّ، لم تدفع الحكومة المصرية الخاضعة للاحتلال «الإسرائيلي» إلى فتح معبر رفح لمرور المرضى والجرحى ممن هم بحاجة ماسة للعلاج، و لم يتمكن سوى 1% فقط من الجرحى من المرور عبر المعبر، في وقت يحتاج ما لا يقل عن 8 آلاف جريح إلى تدخل طبي عاجل وفوري. وأدى التأخير في الحصول على «الموافقة الأمنية» من الجانب المصري إلى استشهاد البعض منهم (المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان).
في غضون ذلك، لا تزال المنظمات الإنسانية تلعب دوراً مشبوهاً، بالتواطؤ مع الاحتلال وتنصّلها من مسؤوليّاتها، (راجع «القوس»، تواطؤ الأونروا والصليب الأحمر الدولي؟)، إلى جانب التقارير التي أفادت بأن منظمة الصحة العالمية ربما تكون قد سهلت، عن غير قصد أو عن علم، اختطاف جيش الاحتلال لمسؤولين طبيين.