إلى متى يبقى المواطن في لبنان، سواء كان مدّعياً أو مدّعى عليه، يدفع ثمن الاهتراء في الدوائر القضائية منها، والضياع بين دهاليز المحاكم وغياهب السجون؟ القضاء المترهّل يمشي كـ«السلحفاة» ولا قدرة له على البتّ في مصير آلاف الموقوفين الذين لامست نسبتهم 83% من نسبة الموجودين في السجون والنظارات اللبنانية، إلى جانب الكثير من الملفات التي تحتاج إلى إصدار أحكام فيها. أيُّ إصلاح للقضاء يُنشد وأيُّ نفضة ترتجى؟ والسلطة السياسية لا تزال تعتمد المسار نفسه في تعاطيها مع القضاء وأجهزته، فهي التي كانت قد خصّصت في موازنة 2022 اعتمادات لوزارة العدل 2.493.517.469.000 ليرة لبنانية، أي ما يوازي 0.5% من مجمل اعتمادات الموازنة. وبدلاً من أن يُسجل ارتفاع في اعتمادات وزارة العدل في مشروع موازنة 2024، سُجل انخفاض بنسبة 0.4% أي ما قيمته 1.177.935.424.000 ليرة.
«القوس» استطلعت آراء عدد من المتضررين من الوضع الحالي للقضاء، واستمعت إلى شكاوى أهالي الموقوفين وعدد من المحامين والقضاة.

ما في كرامة للإنسان
تشكو هـ .ش.، وهي والدة أحد الموقوفين في سراي بعبدا، من وضع السجن، حيث «لا كهرباء، ولا ماء للشرب، لا أدوية، ويعاني الموقوفون نقصاً في كل المستلزمات»، ما يضطرها في كل زيارة إلى حمل الطعام والمياه له، فيما لا يزال ابنها الموقوف منذ 27-5-2023 ينتظر تحديد موعد لعقد جلسة استنطاق له.

عدم تحديد الجلسات
أمّ أخرى لأحد الموقوفين تشير إلى واقع جديد أفرزته الأزمة الاقتصادية حيث «ينام الملف عند الكاتب، وإذا ما أعطيت الكاتب مصاري، ما بيشتغل شغله. ناقصنا بعد كل هالوضع الزفت يلي عايشينه ندفع رشوة للموظف حتى يقوم بشغلته».

من يدخل المخدّرات إلى رومية؟
وتسأل والدة موقوف بتهم مخدرات في سجن روميه إدارة السجن: «من يدخل المخدرات إلى السجن ومن يسهّل وصولها إلى السجناء؟»، مشيرة إلى أن «ابني مريض مخدرات، وهو موقوف منذ عامين ولم يحضر أي جلسة، وبدل أن يخضع للعلاج صار وضعه أصعب». وسألت: «لماذا لا يُسجن من هم مثله في مراكز للعلاج والتأهيل؟».

لا تعيين للجلسات
«لا تبادر المحاكم إلى تعيين جلسات بدلاً من تلك التي تم تأجيلها بسبب اعتكاف القضاة. ففي محكمة الجزاء في بيروت، لا يتم تحديد موعد جلسة إلا ذهب المحامي أو المدّعي إلى المحكمة، ويطلب تحديد جلسة، ثم يأخذ بيده الأوراق إلى المباشر لتبليغ الخصم بموعد الدعوى» يقول أحد المحامين، مشيراً إلى أن «المدعى عليه يستفيد من عدم تعيين جلسة بسبب مرور الزمن، وقد يخسر صاحب الحق حقه في هذه الحالة».

مواعيد الجلسات بعيدة

ويشير أحد المحامين إلى أنّه كانت لديه أمام محكمة البداية المالية محاكمة بتاريخ 16/11/2023 واختُتمت وتم تبادل اللوائح وجرت المرافعة، إلا أن جلسة الحكم جرى تعيينها في آذار، أي بعد أربعة أشهر.

تجاوزات قانونية في التوقيف
يتحدث محام لـ«القوس» عن مخالفات قانونية خلال الأسبوع الفائت خلال توقيف س. أ. بعد الادّعاء عليه بجرم إساءة الأمانة استناداً إلى المادة 671، مشيراً إلى أن «العقوبة القصوى لهذا الجرم سنة، لا يجوز التوقيف الاحتياطي فيها، وفي حال جرى ذلك لا يجوز أن تتجاوز مدة التوقيف 5 أيام، تم استجوابه من قبل تحرّي بيروت بعد 8 أيام، لأنه توجد واسطة كبيرة، وأمر أحد المحامين العامين بتوقيفه خلافاً للقانون رغم أنه جرم إساءة أمانة، وقد بيّنا أنه دين تجاري، لكنه لا يزال موقوفاً على ذمة التحقيق».

قاعة المحاكمات في رومية
المشكلة الكبرى هي في سجن رومية، حيث العدد الأكبر من الموقوفين والمحكومين في لبنان. فمنذ أزمة كورونا عام 2019 ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية، بات يصعب سوق الموقوفين إلى قصور العدل. والمفارقة أنّ هناك حلاً، ولو جزئياً، عبر استخدام قاعة المحاكمات في سجن رومية التي افتُتحت في حزيران 2012 لتسريع الإجراءات القضائية للموقوفين من ذوي الخصوصية الأمنية. إلا أنه بعد كل هذا الوقت، لم يُستفد منها بالشكل المطلوب، فلماذا لا تُستخدم هذه القاعة لتسريع المحاكمات والتخفيف من اكتظاظ السجن المركزي؟ ما هي المعوقات التي
تحول دون ذلك؟
سبق أن عالجنا في «القوس» هذا الموضوع، وقدّمت رؤية المعنيين لاستئناف العمل فيها وتحديداً نقابة المحامين، بتاريخ 17-6-2023 (راجع توقيف «محكمة» خلف القضبان). وبحسب المعلومات المتوافرة لا نيّة جدية لإعادة افتتاح هذه القاعة لأسباب عديدة.

هل الحلول عند القضاة وحدهم؟
توجّهنا بهذا السؤال إلى عدد من القضاة في لبنان، وكان الجواب واضحاً بأن القضاة لا يتحمّلون مسؤولية هذا الوضع المتردّي للقضاء، فهم يعانون وكذلك المساعدون القضائيون، من انعدام وجود الماء والكهرباء والتدفئة منذ 5 سنوات في قصور العدل، فكيف يمكن للقاضي أن يداوم يومياً في هذه الظروف وهو يتقاضى راتباً قد لا يكفيه لتنقلاته اليومية؟
لا يوجد قاض معتكف اليوم، هناك قضاة قلّصوا من عدد الأيام التي يحضرون فيها إلى قصور العدل بمعدل يومين في الأسبوع بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة، أما في المناطق البعيدة فهناك من يداوم بمعدل يوم واحد أسبوعياً.
لا ينكر أحد القضاة (فضّل عدم ذكر اسمه) وجود قضاة فاسدين، إلا أن غالبية القضاة تعمل بمسؤولية ولم تتخلّ عن واجباتها، فيما قدّم عشرات القضاة ومنهم قضاة متخرّجون حديثاً طلبات للاستيداع (سنتين) أو لإجازة من دون راتب (ستة أشهر)، وفضّل آخرون تقديم استقالاتهم.

70 قاضياً ينتظرون الاتفاق على توزيعهم
أمام الواقع الصعب لقصور العدل التي تعجّ بالدعاوى مقابل العدد المحدود للقضاة فيها، يسأل أحد القضاة عن مصير 70 قاضياً أصيلاً مضى على تخرّجهم 3 سنوات ولكنهم لا يستطيعون ممارسة عملهم، بسبب عدم توزيعهم حتى الآن نتيجة الخلافات بين رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود ووزير العدل هنري خوري على آلية التوزيع. والمفارقة أن هؤلاء القضاة يتقاضون منذ تعيينهم رواتب ومستحقات كما القاضي الذي يعمل، وهم في طبيعة الحال لن يتسلّموا مراكز حساسة تستدعي التأخير في توزيعهم كونهم في بداية مشوارهم القضائي». وقد تواصلت «القوس» مع القاضي عبود لسؤاله عن الموضوع، لكنها لم تلقَ جواباً على اتصالاتها.

محاكمات أونلاين
اختار عدد من القضاة، على قلّتهم، متابعة عدد من الملفات «أونلاين»، خصوصاً تلك التي يوجد فيها موقوفون في سجون أو نظارات بعيدة ويصعب سوقهم بسبب عدم توفر الوقود لآليات قوى الأمن الداخلي. هذه الخطوة التي بدأت في زمن الكورونا مع نقيب المحامين السابق ملحم خلف وهي تستمر بخجل وبقرار شخصي من القاضي (يستخدم هاتفه والإنترنت الخاص به) لعدم توفر الإنترنت في قصور العدل.
والسلطة السياسية لا تزال تعتمد المسار نفسه في تعاطيها مع القضاء وأجهزته


معظم القضاة اختاروا عدم الخوض في مغامرة إجراء المحاكمات أونلاين، إما بسبب عدم اقتناعهم بتحقق مبدأ الوجاهية من خلال الإنترنت، أو بسبب عدم رغبتهم (أو ربما قدرتهم) على استخدام هواتفهم الخاصة والإنترنت الخاص لإجراء هذه المحاكمات التي قد تمتد لساعات طويلة، إذ إن «القاضي مش مضطر يدفع من جيبته». يضاف إلى ذلك المشاكل التقنية التي قد تصيب الإنترنت خلال إجراء المحاكمات.
وفي هذا الإطار، يؤكد أحد القضاة أن «إجراء المحاكمات أونلاين من شأنه أن يسرّع في البت بالكثير من الملفات العالقة منذ سنوات، بسبب صعوبة السوق من السجون، إذا تم التعاطي بجدية مع الموضوع من قبل المعنيين، لذا يُفترض تسهيل هذه الخطوة من خلال تجهيز قصور العدل وقاعة المحاكمات والسجون بالإنترنت السريع الذي يضمن سهولة الاتصال خلال إجراء المحاكمة، إلى جانب التنسيق مع إدارات السجون التي لها دور مهم في تسهيل إجراء هذه المحاكمات مع الموقوفين».