في مشهد بانورامي شديد الدقة، على بعد بضعة كيلومترات من قراهم في الجليل الأعلى وسائر شمال فلسطين، يتابع الفلسطينيون في المخيّمات أخبار الجليل والبلاد وغزة منذ 7 تشرين الأول لحظة بلحظة. عجّز وأطفال، يجلسون في مخيّمات البص والرشيدية وبرج الشمالي أمام شاشات التلفزيون التي لا تنطفئ، ويترقبون إشعارات قنوات المقاومة على تطبيقي «تلغرام» و«واتساب» التي لا تكف عن الظهور منبئة باستهدافات جديدة. لم يتخط أهل المخيّمات حتى هذا اليوم المشهد - الحلم، «لحظة إعلان حركة حماس عن عدد الأسرى الذين بحوزتها، تحوّل المخيّم إلى عرس صغير»، يقول أحد الشبان الفلسطينيين من سكان مخيّم البص في مدينة صور، مشيراً إلى «أننا في السابق كنا نستمد يقين العودة إلى فلسطين من معتقداتنا الإسلامية، اليوم نشعر أن الأمر ممكن بالسلاح كما كان ممكنًا بالإيمان»

من أجل حق العودة، بدأت حركات الفدائيين في الخمسينيات، وأنشأت منظمة التحرير كما المجلس والميثاق الوطني، إضافة إلى عشرات النقابات التي تجمع المثقفين، فلا يوجد حل لقضية فلسطين دون حل لقضية اللاجئين. صحيح أن مواد الميثاق الوطني لحقوق الإنسان كفلت حق العودة فربطته بحق الملكية والانتفاع بها، وهي مسألة لا تزول بالاحتلال، إضافة إلى كونه متصلًا بحق تقرير المصير وهو ما اعترفت به الأمم المتحدة بشكل واضح للشعب الفلسطيني سنة 1969. حتى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أقرّت بحق الفلسطينيين في الكفاح المسلح لأنه يعود إلى حق الدفاع عن النفس. لكن بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، أصبح الحديث عن حق العودة المكفول دولياً بعد سنوات من إعطاء غطاء شرعي وقانوني للمجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين سيمفونية ضجر العالم من نشازها. فالرجل الأبيض الذي حدد قواعد النظام العالمي المقبولة والقابلة للتطبيق، حدد كذلك سمات الدول «المارقة» ومؤسساتها، ومستشفياتها القابلة للقصف والتنكيل لتحقيق «السلام العالمي». كما حدد شروط «مسار العودة» التي أعطته قوة الكفاح المسلح اليوم معبراً أكثر وضوحاً بعد أن فشلت منظمات المجتمع المدني بتأمين «أول فرصة للعودة» كما تؤكد الجمعية العامة في الأمم المتحدة في الفقرة 11 من القرار الرقم 194 (الدورة 3) في كل عام، فكيف يتخيّل الفلسطينيون مسار العودة اليوم؟

حسن (23 عاماً) - من قرية نحف في قضاء عكا
«أنا من قرية نحف في شمال فلسطين، رفاقي في مخيّم الراشيدية، في مدينة صور، من قرى متنوعة مثل أم الفَرَج وعلما والشيخ داود وشعب» يقول حسن، مضيفاً إن «ما حدث في معركة طوفان الأقصى أعاد الأمل لأبناء جيلي. لأنو للصراحة ولا مرّة كنت بتخيّل إنو جيلنا هاد ممكن يشهد التحرير. بس بعد هاي المعركة صار عندي أمل كبير، حركة حماس لحالها دمّرت صورة الاحتلال فما بالك لو كل الشعب الفلسطيني التَحم؟».

أبو محمد (53 عاماً) - من قرية سحماتا في الجليل الأعلى
«سنة 1948 جرى تهجير والدي من قريته سحماتا في الجليل الأعلى، وكان يبلغ حينها 14 سنة» يروي أبو محمد قصة والده الذي استقر في بلدة العباسية جنوب لبنان ليستشهد سنة 1984 في ما يسمى «حرب لبنان الأولى» (الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982). ويقول إنه بعد عدوان تموز 2006، أصبح الفلسطيني يرى أن إمكانية هزيمة العدو الإسرائيلي ممكنة، لكن ما حصل في 7 تشرين الأول كان مفاجأة، «كنا نشعر بأننا أمام مشهد من فيلم سينمائي. فنحن لم نعتد أن نرى هذا العدد من القتلى أو الأسرى الصهاينة. في السابق، كنا نحتفل عند أسر جنديّين فقط، حتى أن حرب تموز بُنيت على وجود أسيرين ميّتين، فكيف بوجود أكثر من 200 أسير اليوم لدى حركة حماس؟ نظرية العودة اليوم أقرب، وهي ليست مسألة عاطفية أبداً».

مخيّم البداوي: عيوننا على الجنوب
في حديث مع عبد المجيد، فلسطيني مقيم في مخيّم البداوي، يقول: «في العادة، المخيّمات تعيش على همّها اليومي بسبب المعاناة، أما في ما يتعلق بقضية العودة فإن أهل المخيّم يأخذون معنوياتهم من المستجدات في فلسطين. أنا من قرية سحماتا، وأغلب الفلسطينيين في لبنان من الجليل ومن شمال فلسطين». يشير عبد المجيد إلى أن الأمل لدى الفلسطينيين في المخيّم بات موسمياً، يذهب ويعود، ويقينهم في العودة «كان دينياً» قبل معركة «طوفان الأقصى». أما اليوم، المشهد مختلف لأول مرة، بالنسبة إلى عبد المجيد «نحن أمام واقع التحرير، فالمشهد الذي يمسك فيه أحد مجاهدي القسّام جندياً إسرائيلياً والأخير يتوسله ليتركه ويعده بأنه سيرحل وعائلته لا يذهب من عقلي. تفاعل المخيّمات أمر لا يصدق، عيوننا على لبنان واليمن والعراق وجميع أحرار العالم».
الرجل الأبيض الذي حدد قواعد النظام العالمي حدد كذلك سمات الدول «المارقة» ومستشفياتها القابلة للقصف والتنكيل لتحقيق «السلام العالمي»


حق العودة بمفهومه القانوني: الفلسطيني يتطلع لأكثر من ذلك
أشارت الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى وجوب عودة الفلسطيني إلى أرضه في القرار 194 (الدورة الثالثة) الذي نصّ على: «وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة». ورغم أن الفرص تاريخياً لعودة الفلسطينيين كانت كثيرة منها عند توقف القتال وتوقيع اتفاقية الهدنة مع مصر في 1949 ومع سوريا في السنة نفسها إلا أن «إسرائيل» لم تسمح بذلك، ناهيك عن أن «حق العودة» الذي تدعمه الأمم المتحدة يأتي في سياق العيش في كنف الدولتين. ورغم هذا، فقد طُرحت أسئلة كثيرة حول إمكانية تطبيق «حق العودة» بسياقه القانوني، منها أن الأرض لن تتّسع، وأن الفلسطينيين لن يرغبوا بترك الدول التي يعيشون فيها، وأنهم لن يرغبوا في العيش تحت إدارة السلطة الفلسطينية. ويمكن القول إن الأحداث التي مرّت على الشعب الفلسطيني منذ 1948، جعلت تطبيق هذا المسار قانونياً غير معقول، وغير مقبول لأن التطلعات اليوم أصبحت أبعد.



كيف توزّع الفلسطينيون سنة 1948 بعد ترحيلهم؟
في كتاب «حق العودة» الصادر عن المركز القومي للدراسات والتوثيق سنة 1999، يوضّح الباحث والمؤرخ الفلسطيني، سلمان أبو ستة، توزّع اللاجئين الفلسطينيين بعد نكبة 1948 على المناطق في فلسطين المحتلّة وفي الدول العربية على الشكل التالي:

الفلسطينيون في الشتات: «عائدون لا محالة»
«اهتمام الفلسطيني خارج المخيّمات بقضية العودة لا يقل عن اهتمام الفلسطيني المقيم داخلها» تقول آية لـ«القوس»، وهي شابة فلسطينية - أردنية نشأت في السعودية، وتضيف: «أنا لم أعش في المخيّم، لكنني لا أقبل أن أتخلى عن صفة عائد. نحن الفلسطينيين الموجودين في الشتات لسنا فئة قليلة، عشنا في بيئة طاردة في السعودية وفي لبنان وفي باقي الدول العربية، لذلك فإن شعورنا بالنقص يرافقنا كالشبح». تأجج شعور العودة لدى آية، كما تقول، مع بدء معركة سيف القدس تحديداً، إذ كانت العودة حاضرة بشدة في مخيّلتها، «حسّيت خلص رح بنرجع، وصرت بخطط لحياتي بعد العودة». تطرح آية سؤالاً تتداوله مع الكثير من الفلسطينيين في الشتات حول الجهاد: «بعد أن تُفتح المعابر، ويُعلن النفير العام.. كيف سيكون الجهاد؟»


قرية سحماتا
تقع قرية سحماتا على قمّتي تلّتين في قلب الجليل. يمر بمحاذاتها طريق عام يربطها بمدينة صفد، وبمدينتي نهاريا وعكا وبعض القرى الأخرى. ترتفع سحماتا عن سطح البحر 575 متراً، وتبعد عن عكا للشمال الشرقي 30 كيلومتراً. كانت القرية تعدّ من معاقل مقاومة الاحتلال البريطاني والإسرائيلي، لذلك في نكبة 1948، قصفت انتقاماً بالنابالم وهي قنابل تسبب حروقاً بالغة وتدمر الأنسجة العضلية وتصل حتى العظام. ورغم تعرض القرية للقصف، اختبأ عدد قليل من أهلها لأيام في الكهوف وبين الأشجار وظلوا يحاولون العودة إلى بيوتهم باستمرار، لكن الاحتلال كان يمنعهم وبقوا على هذه الحال حتى سنة 1949.