تبدّل واقع التبليغات القضائية اليوم نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل تدني الحدّ الأدنى للأجور، ملقياً ثقله على المواطنين كذلك على المحامين الذين يعانون بسبب عدم قدرتهم على تحمّل هذه الأعباء كما في السابق على قاعدة «مش حرزانة نطلب من الموكل حق التبليغ 10 الآف ليرة»، مع اضطرارهم لتكرار هذه العملية مع كل إضراب أو اعتكاف أو حتى تأجيل الجلسة بسبب غياب القاضي أو لأي سبب من الأسباب. وفي السياق نفسه، هناك قلة «يغامرون» في قصور العدل من أجل تحصيل حقوقهم في مقابل ارتفاع نسبة المواطنين الذين يتخلون عن «حقهم في التقاضي» لأنهم يشعرون أن طريق العدالة متعثّر لا يسلكه إلا كل ذي مال وفير. فما هي البورصة المعتمدة للتبليغ اليوم؟ وما هو تأثير ذلك على حق التقاضي بشكل عام؟

«كيف بدي إقدر إتحمّل إدفع كل ما يكون عندي جلسة مبلغ 3 أو 4 ملايين حتى بلّغ أشخاص هني كانوا سبب بخسارة كبيرة بحياتي، المحامي بيقول مش قادر إتحمّلها، وأنا مش قادر إتحمّل إدفع التبليغات، شو لازم أعمل بعد سنة ونص من الشمشطة، لازم ما عاد فكر بحقي!» يصرخ ماهر، أحد المواطنين الذين يعانون في المحاكم اللبنانية، في وجه هذا الواقع القضائي المتردّي، الذي يمنعه ولأسباب مختلفة من الحصول على حقه، وهو الذي اختار طوعاً أن يحصّله بالطرق القانونية إيماناً منه بدولة القانون.
وحول تسعيرة التبليغات، يقول: «كنا قبل ما نحس بالموضوع وتمرق الأمور، هلق صارت أقل تبليغة بتكلّف 700 ألف، وتكاليف المحامي صارت بالدولار، كل شي عم يدفعه بالدولار من الرسوم والطوابع والتبليغات حسب قوله، وعم بضطر كفّي لأني صرت بنص الطريق، بس شكلها مطولة».

التبليغ في القانون
بموجب القانون الرقم 90 تاريخ 16/09/1938 «أصول المحاكمات المدنية» «يجري إعلام أصحاب العلاقة بمضمون أوراق المحاكمة وإجراءاتها عن طريق التبليغ» (المادة 397)، كما «يجري التبليغ على يد مباشر. ويجوز إجراؤه أيضاً بواسطة رجال الشرطة أو الدرك. كما يجوز إجراؤه بواسطة الكاتب في القلم (المادة 398).
تكون أعمال المحاكمة وأوراقها بلا قيمة أو أثر إذا لم يجر إعلام الخصم الآخر بها رسمياً بتبليغ قانوني، وذلك من أجل تأمين حقوق الدفاع، وإفساحاً في المجال لمناقشتها وتقديم الجواب المناسب بشأنها عملاً بمبدأ وجاهية المحاكمة، فالاستحضار واللوائح والإنذارات والطلبات بوجه عام، لا يترتب عليها أي أثر إلا من تاريخ إبلاغها إلى الشخص الموجهة إليه.
من جهة ثانية، إن التنفيذ الجبري للإلزامات التي يتضمّنها الحكم، لا يمكن أن يجري مبدئياً إلا بعد تبليغه من المحكوم عليه، كما أن المهل المحددة في القانون، وخصوصاً لسلوك طرق الطعن لا تسري إلا من تاريخ التبليغ.
كما يجري التبليغ أصولاً بموجب محضر يشتمل على بيانات معيّنة، وبطرائق حددها القانون في الفصل الرابع من قانون أصول المحاكمات المدنية، من المادة 397 ولغاية 414 ضمناً.

بورصة التبليغات
«الأصل في التبليغات أن تكون مجانية لأن المُباشِر هو موظف مكلّف من المحكمة للتبليغ ويعمل بحكم وظيفته كمساعد قضائي ويتقاضى راتباً لقاء تنفيذ مهمته» يقول المحامي مهند كنج، مستذكراً كيف كان المحامي يدفع مبلغ 20 ألف ليرة سابقاً للمُباشر على سبيل الإكرامية، أما حالياً ومع حالة التضخم وارتفاع الأسعار لا سيّما المحروقات وتعرفة النقل ومع انخفاض رواتب الموظفين في القطاع الرسمي ومنهم المباشرين أصبح الوضع مختلفاً.
يشير كنج إلى أن تكلفة عدد من التبليغات تصل اليوم إلى حدود 3 ملايين ليرة لبنانية، في بيروت وبعبدا مثلاً، لا سيّما إذا تكررت محاولة التبليغ لأكثر من مرة. ويبلغ بعضها في حدّها الأدنى 750 ألف ليرة إذا كانت المسافة قريبة جداً ولمرة واحدة ولم تتكرر، وهذا في بيروت وبعبدا والاقضية القريبة. مضيفاً أن في مناطق الأطراف سواء في الشمال والجنوب، حيث المساحات واسعة وبعيدة فإنه على سبيل المثال «تصل كلفة التبليغ في منطقة النبطية أو بنت جبيل أو الهرمل أو بعلبك أو جبيل إلخ.. إلى حدود 4 ملايين أو أكثر وفقاً للاتفاق مع المباشِر، وكذلك في حال عدم تكرار المحاولة، ووفقاً للاتفاق بين طالب التبليغ والمباشِر في حال تكرارها فتزداد الكلفة حكماً».
تجدر الإشاره إلى أن نفقات التبليغات أيضاً هي من النفقات التي يدفعها الخصوم وتكلفهم بها المحاكم وتحدد قيمتها أحياناً كما يحدث في دائرة التتفيذ.

تبليغ الورثة أكبر المشكلات
يتشارك المحامي حسن بزي مع زملائه معاناة التبليغات القضائية التي باتت تشكل عائقاً أساسياً أمام الناس للاستمرار في الدعاوى القضائية بعد الاعتكافات والإضرابات من حين إلى آخر، والمشكلة برأيه «ليست في دولرة تسعيرة التبليغ الذي كانت قيمتة 7 دولارات أي ما يقارب 700 ألف ليرة لبنانية، بل تكمن عند الموكل الذي كان يتقاضى راتباً بحدود 5 ملايين ليرة لبنانية أي ما يقارب 33 دولاراً وهو اليوم يتقاضى ما يقارب 100 دولار، فأصبحت تكلفة التبليغ الواحد عبئاً عليه، كيف إذا كان في القضية أكثر من طرف يفترض تبليغه، وماذا لو تأجلّت الجلسة لسبب من الأسباب؟».
ويضيف أن هذا الوضع برمته أصبح صعباً وأن المحامين باتوا غير قادرين على تحمّل تكلفة التبليغات التي كانت في السابق «مش حرزانة»، وتكبر المشكلة اليوم في الدعاوى أمام القاضي العقاري خصوصاً في الجنوب، حيث جرت العادة على المعترض على الملكية العقارية أن يدّعي على كل الورثة، وهو مضطر لتبليغهم جميعاً، وقد يصل عدد التبليغات إلى 50.
ويلفت بزي إلى الإجراءات التي يقوم بها المحامي بعد كل اعتكاف أو تأجيل للجلسات، إذ يضطر إلى الذهاب إلى قصر العدل لتعيين جلسة، ثم يذهب مرة ثانية للتبليغ، ومرة ثالثة لتكليف مباشِر لإجراء عملية التبليغ.

غياب الانتظام القضائي
من جهته، يرى المحامي أحمد برجاوي أن المشكلة اليوم أبعد من موضوع ارتفاع تكلفة التبليغ القضائي أو حتى تدني الأجور في القطاع العام أو الانهيار الاقتصادي الذي ضرب البلد منذ سنوات، إنها تكمن في عدم وجود انتظام في العمل القضائي، إذ تؤجل الجلسات غالباً لأسباب متعددة ولكن النتيجة واحدة، توقّف للعدالة، ودفع المواطن الثمن من وقته ومن جيبه. «هناك دعاوى عالقة منذ سنوات في المحاكم، ولم تصل بعد إلى مرحلة صدور الأحكام، نتيجة اعتكاف القضاة أو إضراب المساعدين القضائيين، ومرات عديدة بسبب جائحة كورونا».
ويتابع: «عندما ينتظم العمل القضائي، ويحضر القضاة والمساعدون القضائيون، ويتوفر المازوت للقوى الأمنية لسَوق الموقوفين من السجون، حينها تنعقد الجلسات في مواعيدها، ولا تؤجل، ولا يعود هناك مشكلة في موضوع التبليغات القضائية».

ماذا يقول المباشرون؟
لا يعتقد عدد من المباشرين الذين تواصلت معهم «القوس» في بعض الأقضية أنّه يوجد مشكلة في موضوع التبليغات القضائية، فهم يقومون بواجباتهم سواء عبر التكاليف التي يكلّفون بها من دوائر التبليغ الموجودة في بيروت، وزحلة، والنبطية، وطرابلس، وصيدا، أو من خلال تكليفهم من المحامين بصورة مباشرة في الأقضية التي لا يوجد فيها دائرة للتبليغ.
يبلغ المعدل اليومي للتبليغات التي يكلّف بها المباشر ما بين 4 إلى 6 تبليغات، أما بالنسبة للكلفة فتراوح بحدّها الأدنى بين 600 و700 ألف ليرة وقد تصل، في المناطق البعيدة، إلى كلفة تساوي: سعر صفيحة بنزين مضافة إلى كلفة التبليغ. وفي حال تعدد الأطراف الذين يفترض تبليغهم تتكرر قيمة التبليغ من دون ثمن صفيحة البنزين إذا كانوا في المكان نفسه، وفق ما أفاد أحد المباشرين.
كما يشير مباشر آخر، في سراي بعبدا في محافظة جبل لبنان، إلى أن تعرفة التبليغ باتت معمّمة بين المباشرين، ويقول: «أنا كمساعد قضائي في بعبدا حيث لا يوجد دائرة للتبليغ والمباشرين أتلقّى التكليف مباشرة من المحامين، وعادة ما أقوم بذلك بعد انتهاء دوام العمل، وإذا كان هناك أكثر من تبليغ واحد يراعى الأمر إذا كانوا يقطنون في المنطقة نفسها». ورداً على سؤال حول اتّباع أصول التبليغ، يلفت إلى أن «المباشر يحرص على القيام بعمله، إلا أنه في بعض الأحيان يرفض المعني فتح الباب واستلام التبليغ، أقوم حينها بكتابة ما جرى على خلف التبليغ، آخر همنا، بكتب هيدا الشي بالتبليغ، وإذا حدن من أهله كان، ورفض يتبلّغ، بترك التبليغ وبمشي».
لا يمكن للمباشر أن يُبلّغ دون أن يتقاضى مبلغاً يغطي تكاليف تنقله


وحول انخفاض عدد التبليغات، يؤكد المباشر ذلك مقارنة بالسابق، معتقداً أنه يعود لـ«الضغط الاقتصادي ويمكن ما عاد في ناس مؤمنة إنو تاخد حقها بالقانون، أكتر شي عم نبلغه هوّي عرض الطلب والإيداع، والديون والقروض، والإيجارات».
من جهته، يتحدث المباشِر في قضاء النبطية، أحمد معتوق، عن عمل المباشرين وتحديداً في المحافظات «مسافات طويلة بين القرى، لا يمكن للمباشِر أن يجري عملية التبليغ دون أن يتقاضى مبلغاً يغطي تكاليف تنقله، أحياناً نذهب من النبطية إلى بنت جبيل للتبليغ، طبيعي أن يحصل المباشِر على كلفة البنزين وكلفة التبليغ وهي بحدّها الأقصى تصل إلى ثلاثة ملايين ليرة».
وحول تلكؤ عدد من المباشرين في إتمام عملية التبليغ أو التهاون في اتّباع الأصول القانونية له، لا ينفي معتوق وجود أشخاص يقومون بذلك من أجل كسب المزيد من المال، ولكنهم قلة برأيه.

«القوى الامنية.. بتقبض كمان»
يجوز إجراء التبليغ أيضاً بواسطة رجال الشرطة أو الدرك (المادة 398 من قانون أصول المحاكمات المدنية). يعطي القانون القوى الأمنية الصلاحية للتبليغ ولطالما كانت القوى الأمنية هي الملاذ لمن لا يملك المال أو لا يريد دفعه من أجل القيام بعملية التبليغ، إلا أن الوضع حالياً قد تغيّر، لم توقف القوى الأمنية عمليات التبليغ، ولكن الموضوع يتطلب دفع المال، فلا مازوت متوفر لتحريك الآلية، وغالباً ما يجمع عشرات طلبات التبليغ للقيام بها دفعة واحدة.
حالات عديدة زودنا بها عدد من المحامين والمحاميات (نتحفظ عن ذكر أسمائهم)، تؤكد أن دفع المال بات أمراً واقعاً في عدد من المخافر من أجل الإسراع في عملية التبليغ دون أدنى حرج. وتذكر إحدى المحاميات أن أحد العناصر الأمنية أخذ منها 20 دولاراً أميركياً لتبليغ شخص يبعد أمتاراً قليلة من المخفر، ويشير محام آخر إلى أنّه «من أجل الإسراع في عملية التبليغ، ندفع للقوى الأمنية حتى يتحركوا للتبليغ، للأسف هيدا الواقع».

التبليغات بين المحامين
«يصح تبليغ الأوراق بين المحامين مباشرة شرط أن ترسل الورقة المطلوب إبلاغها إلى المحامي الآخر بنسختين فيعيد إحداهما الواجب تقديمها للمحكمة إلى زميله فوراً بعد وضع التاريخ عليها وتوقيعها منه إشعاراً بالتبليغ» (المادة 411 من قانون أصول المحاكمات المدنية). أجازت هذه المادة للمحامين التبليغ في ما بينهم، إلا أن هناك محامين يتهربون من استلام التبليغ، وفي حالات يترك المحامي مكتبه نهائياً، أو ينتقل إلى مكان أو مكتب آخر ولا يُعرف عنوانه.
يشير مفوّض قصر العدل في نقابة المحامين، عماد مارتينوس، إلى أن «النقابة متنبّهة لموضوع التبليغات بين المحامين، وعندما يصل تبليغ مختوم ومشروح خلفه سبب تعذّر التبليغ تتابع النقابة الموضوع عبر دائرة من أعضاء مجلس النقابة السابقين يتولون مهمة التواصل مع المحامي، وغالباً ما يكون هناك سوء تفاهم ليس إلّا».
ويتابع: «تجري النقابة كشفاً للتأكد من وجود مكتب للمحامي، وفي حال ثبت الأمر تبدأ النقابة بإجراءات التنبيه، وفي حال التكرار يحق للنقيب إحالة المحامي إلى المجلس التأديبي».
ويخلص إلى القول: «دور النقابة حاسم، وهي تقوم بإجراءات جدّية وصارمة خاصة للمحامين الذين يتهربون من التبليغات، حفاظاً على المهنة وحفاظاً على حقوق المتقاضين، لأننا حريصون على سير العدالة بشكل صحيح».